الجمعة، 19 أبريل 2019

أين مقبرة المخلفات؟

 
لم يتصور الإنسان قط أن المخلفات التي يُلقيها طواعية بيديه قد تَرجع إليه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر ولو بعد حين، ولم يخطر على بالِ بشر بأن هذه المخلفات التي يتخلص منها في البر أو في البحر سيكون مثواها الأخير في بُطون الكائنات الحية أينما كانوا، ولو كان ذلك في أعماق البحار السحيقة، أو في البراري والأدغال المظلمة النائية، أو في الصحاري الثلجية البعيدة عن أيدي البشر وأنشطتهم التنموية.


وفي كل يوم يكتشف العلماء ما يثبت هذه النظرية، ويدلل على وجودها في واقعنا اليومي في كل مكان على سطح الأرض، حتى أنها تحولت الآن إلى حقيقة علمية واضحة المعالم لا خلاف عليها، ومُلخصها بأن كل ما تَصرفه في الأوساط البيئة من ملوثات وكل ما ترميه في الماء أو الهواء أو التربة من مخلفات فإنها سترجع إليك بعد فترة من الزمن، إما مباشرة أو غير مباشرة دون أن تعلم بها، فتتعرض لها وتتراكم رويداً رويدا في أعضاء جسمك دون أن تشعر بوجودها، فتضرك وتفسد أمنك الصحي وتوقعك في شباك الأمراض المزمنة والمستعصية.

وسأُقدم لكم أمثلة حية من حالات كثيرة وقعتْ في مختلف دول العالم وتبين المثوى الأخير للملوثات والمخلفات التي نسمح جميعاً لها بالدخول في بيئتنا، مع التركيز على المخلفات البلاستيكية التي هي قضية الساعة الآن.

ففي 18 مارس من العام الجاري تم اكتشاف حوتٍ ميت في مدينة مَابِيني الساحلية في الفلبين ويحمل في بطنه أكثر من عشرين كيلوجراماً من شتى أنواع المخلفات البلاستيكية، منها أكياس الأرز، وأكياس التسوق، وكلها تراكمت وتحولت إلى كتلة "خرسانية" صلبة أدت على نفوق هذا الحوت. وفي إندونيسيا، وبالتحديد في جزيرة كابُوتا في 18 نوفمبر 2018، اكتشف العلماء كنزاً من المخلفات البلاستيكية في بطن حوت بلغ وزنه 5.9 كيلوجرام ومكون من أكثر من ألف قطعة من المخلفات البلاستيكية، منها 115 قطعة من أكواب البلاستيك، و 25 كيساً بلاستيكياً، وأربع عبوات، وأحذية مصنوعة من البلاستيك. كما تم العثور في يونيو من العام المنصرم على حوتٍ ميت في جنوب تايلند وفي بطنه نحو عشرة كيلوجرامات من أكياس وأغلفة البلاستيك، وفي العاشر من أبريل 2018 تم العثور على حوت ميت على السواحل الإسبانية وفي بطنه أكثر من ثلاثين كيلوجراماً من خليط من أنواع المخلفات الصلبة. كذلك في 27 نوفمبر 2018 تم العثور على ثور ميت في هونج كونج وبعد تشريح الجثة وجدت كميات كبيرة من الأكياس البلاستيكية في بطنه.

فهذه الأمثلة والحالات تُفيد بأن المخلفات التي نحسب بأننا قد تخلصنا منها بطرق غير سليمة بيئياً وصحياً قد انتقلت مع الوقت إلى الكائنات البرية والبحرية والطيور، وهذه المخلفات تنتقل إلينا في حال أَكْلنا لهذه الكائنات، أي أنها ترجع إلينا مرة ثانية، فنصبح نحن في نهاية المطاف مقبرة المخلفات.

وفي المقابل هناك المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم والتي في بعض الأحيان لا نراها بأعيننا المجردة، ويُطلق عليها بالميكروبلاستيك أو الميكروبيدز، وهذا النوع من المخلفات الصغيرة هو الأخطر في تقديري والأشد تهديداً وتنكيلاً بالصحة العامة، فهذا النوع نتيجة لصغر حجمه ينتقل من الأوساط البيئية إلى الكائنات الحية في البر والبحر والجو، وأخيراً إلى الإنسان، حيث اكتشف العلماء مثل هذه المخلفات في كل شبر صغيرٍ أو بعيدٍ من الكرة الأرضية، إضافة إلى الحياة الفطرية وأعضاء جسم الإنسان.

وسأُقدم لكم بعض الأمثلة لأُثبت هذه الحقيقة، فقد تم اكتشاف الميكروبلاستيك في جميع الكائنات البحرية التي تم فحصها في المملكة المتحدة بمعدل 5.5 قطعة بلاستيك لكل كائن بحري، كما تم العثور على هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة الحجم في كل مستويات السلسلة الغذائية البحرية، بدءاً بالكائنات البحرية العالقة في عمود الماء والتي تُعرف بالزوبلانكتون، ثم صغار الأسماك، وأخيراً في السلاحف والأسماك الكبيرة والدلافين والحيتان، حيث تم نشر نتائج الدراسة في مجلة تقارير علمية في 31 يناير من العام الحالي. وتكمن خطورة هذا الاكتشاف المثير والمقلق جداً في أن المخلفات البلاستيكية انتشرتْ في كل جزءٍ من البيئة البحرية، وهذه القطع البلاستيكية قد تحمل على سطحها ملوثات سامة وخطرة سواء أكانت مواد كيميائية أو كائنات حية مجهرية كالبكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض، وهذه في نهاية السلسلة الغذائية يكون مثواها الأخير في بطون الإنسان وأعضائه الأخرى.

كما اكتشف العلماء اكتشافاً خطيراً ومخيفاً للمجتمع البشري برمته ويتمثل في وجود بقايا مخلفات بلاستيكية صغيرة الحجم في بيض الطيور في منطقة نائية وبعيدة كلياً عن أيدي الإنسان وأنشطته التنموية في القطب الشمالي، حسب ما ورد في صحيفة الإندبندنت البريطانية في 18 فبراير من العام الجاري. ومن القطب الشمالي على اليابسة ننتقل إلى أعمق بقعة تحت سطح المحيطات، وبالتحديد في الخنادق السحيقة المظلمة وعلى عمق 10890 متراً تحت سطح المحيط الهادئ، حيث وجد العلماء مخلفات بلاستيكية في بطون الكائنات الحية في ستة مواقع مختلفة، حسب ما هو منشور في مجلة الجمعية الملكية للعلوم المفتوحة في 27 فبراير من العام الجاري، مما يؤكد بأن هذا النوع من المخلفات غطى كل بقعة من الكرة الأرضية في البحر واليابسة، ولم يبق شبر منها إلا وتسمم بهذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة.

فهذه الأمثلة التي ذكرتها لكم ما هي إلا غيض من فيض لا يسع المجال لأمثلة أخرى لتقديمها لكم، ولكن بعد هذه الأمثلة البسيطة أستطيع أن أُجزم وبكل ثقة بأن أجسامنا تحولت الآن إلى مقبرة جماعية لمخلفاتنا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق