الثلاثاء، 9 أبريل 2019

أيهما أشد تهديداً للبشرية التغير المناخي أم ماء الشرب الملوث؟


تُعاني اليوم الولايات المتحدة الأمريكية من حرجٍ شديد مع المجتمع الدولي، وبخاصة مع حلفائها التقليديين من الدول الأوروبية، ولكن هذا الحرج لم يقع الآن وليس وليد الساعة، وإنما هو واقع منذ سنوات، وبالتحديد منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن، وبلغ ذروته اليوم عندما وصل ترمب إلى البيت الأبيض.

فهذا الحرج الأمريكي برز على السطح بوضوح عندما انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية في زمن جورج بوش الإبن من بروتوكول كيوتو في اليابان في عام 1996 بعد أن وقَّع عليه الرئيس الأسبق بل كلينتون وتعهد أمام العالم بالمصادقة عليه وتنفيذ بنوده، ثم تكرر هذا الحرج والعتاب الدولي للولايات المتحدة الأمريكية وبوتيرة أشد وأعمق على أخلاقيات أمريكا، وتحمل مسؤولياتها الدولية وقيادتها للعالم في المجال البيئي عندما انسحب ترمب كلياً من اتفاقية باريس للتغير المناخي في الأول من يونيو عام 2017 ونسفها من أولها إلى آخرها، وبذلك خالف الاجماع الدولي من جهة وتجاهل توقيع الرئيس الأمريكي السابق أوباما على الاتفاقية في عام 2015 وقيادته الشخصية لها من جهة أخرى. 

ومن أجل تخفيف حدة هذا الحرج وشدة العتاب بسبب الخروج عن الإجماع الدولي في قضية التغير المناخي، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية صرف بوصلة العالم من قضية العصر وهي التغير المناخي إلى قضية أخرى تطرحها كبديل للتغير المناخي من حيث الأولوية والاهتمام على المستوى الدولي، ومن حيث تهديداتها للصحة العامة وتأثيراتها المباشرة على البشر، فأمريكا تسعى الآن وبكل جهد وقوة تحويل الأنظار عن قضية التغير المناخي المصيرية التي شغلت العالم منذ قمة ريو دي جانيرو في البرازيل في عام 1992، أي قبل 27 عاماً حتى يومنا هذا، إلى قضية ثانية تأخذ مكانة قضية العصر وتتجه أنظار العالم نحوها.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف تم تكليف رئيس وكالة حماية البيئة الأمريكية بهذه المهمة الشاقة وربما المستحيلة. فقد أعلن رئيس وكالة حماية البيئة الأمريكية في العشرين من مارس من العام الجاري بمناسبة اليوم العالمي للمياه بأن "ماء الشرب غير النظيف وغير الآمن وليس التغير المناخي يُعد القضية الأكثر إلحاحاً حالياً بالنسبة للصحة العامة"، كما أضاف في كلمته بأن "التغير المناخي قضية مهمة، ولكن تهديداته لا تقع قبل خمسين إلى 75 عاماً".

والجواب على هذا التوجه الأمريكي الجديد لإبعاد المجتمع الدولي عن الاستمرار في قضية التغير المناخي لم يأت من بعيد ومن الدول عبر المحيط الأطلسي وإنما جاء من الداخل ومن وكالات وهيئات حكومية رسمية، فقد أكدت اللجنة الحكومية المشكلة من عدة جهات منها وكالة حماية البيئة والمعنية بتقييم تداعيات التغير المناخي بأن هذه التداعيات مثل الأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات أصبحت الآن مشهودة للعيان ويتكرر وقوعها أكثر من قبل، كما أن تقارير وزارة الدفاع "البنتاجون" أكدت عدة مرات بأن التغير المناخي يشكل تهديداً حقيقياً للأمن القومي الأمريكي، إضافة إلى رَدْ مجلس دفاع الموارد الطبيعية على إدعاءات رئيس وكالة حماية البيئة والذي جاء فيه بأن انعكاسات التغير المناخي نراها أمامنا الآن، ومردوداتها نشاهدها كل يوم، وتأثيراتها تزاد شدة وتنكيلاً سنة بعد سنة.

ولكن هذا لا يعني بأن قضية "المياه" بشكلٍ عام لا تمثل أهمية كبرى وضرورة حيوية بالنسبة للمجتمع البشري في كل أنحاء المعمورة، فالماء سر الحياة من جهة، وسر الأمان وتحقيق الإستقرار للشعوب والدول من جهةٍ أخرى. فمن جانب لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون الماء العذب الفرات الصحي والسليم، فهو خُلق من الماء وجسمه معظمه يتكون من الماء ويحتاج إلى الماء لاستدامة حياته واستدامة تنميته، فلا حياة ولا تنمية بدون الماء مصداقاً لقوله تعالى:"وجعلنا من الماء كل شيء حي". وفي الوقت نفسه توافر الماء السليم من الناحيتين النوعية والكمية هو حجر الأساس لاستقرار  وتطور وتقدم الأمم والشعوب سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، فعدم التفاهم في تقسيم مصادر المياه المشتركة، سواء الأنهار أو البحيرات قد يكون الوقود السهل لإشعال الفتن والحروب التي لا تنتهي.

فقضية التغير المناخي مهمة كما أن قضية المياه مهمة، ولكن هناك فروقاً في كيفية منع هذين القضيتين وطرق علاجهما ويجب أن نقف عندها قليلاً لكي تتضح الصورة للجميع، فلا ننخدع بوجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولاتها تهميش قضية التغير المناخي.

أما الفرق الأول والرئيس فهو المدخل المتبع لعلاج القضيتين والآلية التي يمكن تبنيها لعلاجهما جذرياً. فأبعاد مشكلة التغير المناخي ليست محلية أو إقليمية حتى تقوم بعض الدول بمعزل عن الدول الأخرى في مكافحتها وتقديم الحلول المناسبة لها، فمشكلة التغير المناخي دولية شاملة، أي أن كل إنسان وكل دولة تُسهم في تكوين هذه المشكلة، ومردوداتها تنعكس على كل دول العالم بدون استثناء وعلى الكوكب الوحيد الذي نعيش عليه جميعاً، ولذلك فإن أي تصد لهذا التهديد على الكرة الأرضية لا يكون فاعلاً وذا جدوى إذا انحصر على دولة واحدة أو مجموعة من الدول، ولذلك يجب أن يكون الحل "جماعياً" وفي الوقت نفسه "مشتركاً" ولا تُعفى أية دولة من مسؤولياتها، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي هي رأس هذه القضية الدولية، ولا يمكن القيام بذلك إلا من خلال آلية الإتفاقيات والمعاهدات الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة.

أما مشكلة المياه فيمكن في بعض الأحيان أن يكون علاجها على المستوى الوطني من خلال توفير المياه الصالحة للشرب، أو في بعض الأحيان يكون الحل إقليمياً عندما تشترك أكثر من دولة واحدة في مصدر المياه، فلا حاجة في قضية المياه أن تشترك كل دول العالم في الحل نفسه، فهناك إختلافات وفروق جوهرية في نوعية وحجم المشكلة التي تعاني منها كل دولة بالنسبة للمياه.

وبناءً عليه فإن قضية التغير المناخي في تقديري، وليست المياه، تمثل التهديد الأول لصحة الإنسان وإستدامة حياته وحياة باقي الكائنات على وجه الأرض، ودول العالم كلها هي جزء من المشكلة وجزء من الحل في الوقت نفسه.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق