الأحد، 7 يونيو 2020

وباء فيروس العنصرية في أمريكا

مازالتْ الصرخات المدوية والمؤلمة للمواطن الأمريكي من أصول أفريقية ترُّن في أذني، فتوجع مسمعي، وهو يتخافت صوته شيئاً فشيئاً في كل ثانية بسبب انقطاع نفسه، فيلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتوسل للشرطي الأبيض من مدينة مِينابُوليس بولاية ميناسوتا الذي جثم على صدره بثقله كله، ووضع ركبتيه على عنقه لدقائق طويلة لم تكد تنتهي، فيقول هذا الطريد المسكين الراقد على خده على الأرض في الشارع العام، وهو مكبل ومغلول اليدين: " لا أستطيع أن أتنفس...من فضلك لا أستطيع التنفس"!

ففي الواقع فإن مثل هذا المشهد اللاإنساني من المفروض أن لا نراه في عالم الإنسان المتحضر المتقدم والحر، وإنما هذه المشاهد الرجعية اعتدنا رؤيتها في عالم الأنعام والدواب والحيوانات المتوحشة، وليس عالم الإنسان، ومثل هذه المناظر المؤلمة نشاهدها من خلال الأفلام الوثائقية عن افتراس الطيور الجارحة لفريستها وطريدتها من الطيور أو الحيوانات البرية، وليس في عالم بني البشر. 

فمنظر هذا الشرطي لا يغيب عن ناظري وعيني، وهو يخنق الرجل الأسود رافعاً رأسه، وواضعاً يده في جيبه وهو يراقب يميناً وشمالاً، فهذا هو بالضبط مشهد الأسد المنقض على فريسته، والضاغط بمخالبه، والعاض بفكيه على رقبة الفريسة حتى ينقطع التنفس فتموت، وهذا المشهد هو أيضاً ما نراه في الأفلام الطبيعية عن حياة افتراس الطيور الجارحة من الصقور والنسور وغيرهما وهي تقضي على فريستها، فتجثم عليها بمخالبها الحادة وهي تنظر إلى الشمال والجنوب وإلى الأعلى والأسفل حتى تكشف ما حولها وتطمئن بأن ضحيتها قد اختنقت موتاً.

فهذا المشهد المأساوي العقيم ليس هو الأول من نوعه، ولن يكون حتماً الأخير، فقد رأينا مثل هذه المشاهد مراراً وتكراراً وفي جميع مدن الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ ممنهج ومستمر منذ عقود طويلة من الزمن، وكأن الإنسان، وبخاصة الإنسان الضعيف والفقير من السود والعرقيات والأقليات المتعددة في أمريكا لا قيمة لهم، ولا حقوق لهم، ولا قانون يحميهم من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

ففيروس العنصرية البغيض نخر جسم أمريكا وجميع أعضائه قبل فيروس كورونا، وفيروس التمييز على أساس اللون والعرق تفشى في المجتمع الأمريكي قبل تفشي فيروس كورونا، وفيروس اللامساواة بين الشعب الواحد تجذر عدواه وانتقل في جسد أمريكا كله قبل ولوج فيروس كورونا وانتشاره فيه، ولذلك فهو يستحق أن يُطلق عليه بالوباء الاجتماعي المزمن الذي لا يزول ولا ينتهي منذ قرابة 400 عام من عمر أمريكا.

وفي المقابل فإن فيروس كورونا نفسه الذي نشهده الآن لم يكن أيضاً رحيماً بهذه الفئة البائسة من المجتمع، ولم يأخذ في الاعتبار ضعفها وحاجتها وقلة حيلتها وهوانها على الناس، فزادهم هو بؤساً وشقاءً وعلة، فكان معظم الضحايا الذين سقطوا فريسة سهلة لهذا الفيروس هم من السود والأقليات ومجتمعات السكان الأصليين في بعض دول العالم.

فقد أفادت دراسة قام بها "اتحاد شيكاغو الحضري"(Chicago Urban League) في 25 مايو من العام الجاري تحت عنوان: "وباء عدم المساواة، العنصرية الممنهجة وكورونا في مجتمعات السود"، بأن قرابة 30% من الحالات المرضية لفيروس كورونا على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية هم من السود، علماً بأن السود يُشكلون فقط نحو 13% من سكان أمريكا. وأما على مستوى المدن والولايات الأمريكية، فقد أشارت إحصائيات مراكز منع والتحكم في المرض بأن 60% من الذين قضوا نحبهم في مدينة شيكاغو هم من السود، علماً بأن السود يمثلون فقط 30% من سكان المدينة، أي موت 45 إنساناً من السود لكل مائة ألف، وهذا يعد أعلى نسبة لأعداد الموتى. كذلك في ولاية إلينوي، السود يشكلون 25% من الذين يعانون من مرض فيروس كورونا، في حين أن نسبة عددهم لا تتجاوز 15% من سكان الولاية، وفي المقابل السكان البيض الذين يمثلون 77% من السكان، فإن نسبة المرضى بينهم لم تزد عن 24% فقط.

كما أكد مقال منشور في مجلة "الطبيعة" المرموقة في 19 مايو تحت عنوان: " كيف تكون العنصرية البيئية وقوداً لوباء كورونا"، على واقعية هذه الظاهرة وتعمقها وتأصلها في مجتمعات مدن وولايات أمريكا، حيث أكد المقال بأن هناك عدة عوامل تقف وراء هذه الحالة المشهودة في أمريكا، وعلى رأسها "العنصرية البيئية"، أو عدم وجود "عدالة بيئية" بين مناطق المجتمع الأمريكي من جهة وبين فئات وسكان المجتمع من جهةٍ أخرى. فمعظم السود والأقليات يعانون من ظروفٍ بيئية ومعيشية وصحية قاهرة ومزمنة، فهم يعيشون في أكثر مناطق أمريكا تلوثاً وتدهوراً من ناحية فساد جودة الهواء، وتلوث مياه الشرب، إضافة إلى تلوث التربة، فمعظم هؤلاء يعيشون في ظروفٍ بيئية صعبة بالقرب أو في المناطق الصناعية شديدة التلوث، كما يسكنون بالقرب من مصانع حرق المخلفات ومواقع دفن القمامة والمخلفات الصناعية الخطرة. وعلاوة على ذلك كله، فهم يعيشون في منازل وأحياء مكتظة وكثيفة بالسكان وغير صحية وغير آمنة، إضافة إلى عدم توافر المرافق والخدمات الصحية المناسبة والكافية لهذه الأعداد الكبيرة من السكان. وكل هذا يكرس ويثبت الاعتقاد السائد بتجذر وتغلغل التمييز العنصري بين المواطنين في أمريكا وتعمق التفريق بين البشر على أساس لون البشرة، أو العرق، أو موطن البلد الأصلي.  

فالعنصرية إذن، سواء ترتكبها أيدي البشر الآثمة، أو تنقلها أقلام الكتاب والمرتزقة، أو يدعو إليها رجال النفوذ والسياسة ظاهراً وباطناً، أو يطبقها رجال القانون من الشرطة أو المحامين أو القضاء، أو أخيراً من فيروس كورونا، فكلها تجمعت وتراكمت مع الزمن، وأثبتت توغل العنصرية والتمييز بين المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أن أحد دعاة الحقوق المدنية في أمريكا ألقى خطاباً في 28 مايو بعد مقتل الرجل الأمريكي الأسود، وقال بأننا يجب أن نعلن عن مرض العنصرية في أمريكا بأنه "قضية صحة عامة" يجب مناقشتها بجدية ومعالجتها بحزم وبسرعة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق