الأحد، 28 يونيو 2020

البيئة تَسقطْ ضحيةً لكورونا


استفادت البيئة قليلاً في الأشهر الأولى من انكشاف الغمامة السوداء للريح الفيروسية الصرصر العاتية التي هبَّت على كل دول العالم، فرجعتْ عافيتها، واستعادت قوتها، وانتعشت وتعززت قدرتها على العطاء مرة ثانية لاستدامة حياة الإنسان، فانخفضت نسبة الملوثات في هوائها، وتحسنت جودة الهواء التي يتعرض لها كل إنسان على سطح الأرض.

وهناك الكثير من الدراسات الميدانية التي راقبت التغيرات التي طرأت على نوعية الهواء الجوي في بعض دول العالم، وراقبت مستوى التلوث في الهواء قبل نزول أيام كورونا السوداء الثقيلة على البشرية، وأثناء وجود هذا الفيروس الخبيث في مجتمعاتنا.

فقد رصد القمر الصناعي سنتينال-5(Sentinel-5) التابع لوكالة الفضاء الأمريكية(ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية هذه التغيرات الجذرية في نسبة التلوث، حيث قدَّم هذا القمر الصناعي الصور الحية التي تبين التغير في تركيز الملوثات قبل ظهور فيروس كورونا، وبعد وأثناء انكشاف هذا الوباء الصحي الجماعي، وبالتحديد بالنسبة لتركيز غاز ثاني أكسيد النيتروجين والأوزون وثاني أكسيد الكربون. فقد تم نشر الصور الفضائية من 1 إلى 20 يناير من العام الجاري، أي قبل بدء سجن الحجر الصحي العظيم، ثم من 10 و 25 فبراير أثناء الحجر الصحي، كما أن هناك تقارير أخرى نُشرت حول هذه المستجدات البيئية الخاصة بجودة الهواء. فعلى سبيل المثال، انخفضت في منتصف مارس في المدن الصينية نسبة مستويات غازات أكاسيد النيتروجين 38% عن مستويات عام 2019، و 34% بالنسبة للدخان أو الجسيمات الدقيقة. ولذلك فقد أكدت نتائج كل هذه الدراسات بأن هناك فوائد وايجابيات غير متوقعة قد صاحبتْ هذا الوباء الفيروسي العام، وتمثلت بشكلٍ مشهود للجميع في تحسين نوعية الهواء، وبالتالي تجنيب الناس الأمراض والموت من هذا التلوث العقيم المستدام.
ولكن هذه الانتعاشة البيئية والازدهار المثمر في نوعية وجودة الهواء قد لا تدوم طويلاً، فبعد أن فتحت المدن أبوابها، وخرج الناس من منازلهم زرافاتٍ ووحدانا، وبدأت الحركة المرورية تدب في شوارع الأحياء والمدن، بدأ العد التنازلي التدريجي لارتفاع مستوى التلوث في الهواء الجوي، كما كان عليه قبل أن يضربنا هذا الوباء العقيم، حيث أفادت التقارير المنشورة في الثالث من يونيو في بعض مدن العالم بأن نسب تلوث الهواء تأخذ في الصعود يوماً بعد يوم وبوتيرة متسارعة. ففي مدينة ووهان، مسقط رأس فيروس كورونا، أفادت التقارير الأولية بأن نسبة أكاسيد النيتروجين أقل فقط 14% من السنة الماضية، وفي شنغهاي أقل 9%، وفي لندن وباريس انخفضت النسبة نحو 30%.

كما أن هناك ظاهرة جديدة أخرى بدأت تنكشف خيوطها في بعض دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتؤكد هذه الظاهرة خسارة المكونات البيئية لكل المكتسبات التي حققتها خلال الأشهر الماضية، كما تُثبت بأن البيئة بشكلٍ عام أصبحت فريسة سهلة، وضحية هشة لتداعيات فيروس كورونا. فكما يعلم الجميع بأن فيروس كورونا زلزل اقتصاد الدول بشكلٍ عام دون تفريق أو تمييز، وهز أركانها على كافة المستويات، فنسبة النمو راوحت في مكانها، أو انخفضت بدرجة مشهودة، والبطالة ارتفعت بمستويات غير مسبوقة، حتى وصلت في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال إلى أكثر من 14% في بعض الأشهر، أو قرابة عشرين مليون عاطل عن العمل.

كل هذه الانعكاسات الاقتصادية العقيمة، والحالة الاقتصادية الطارئة التي تمخضت عن كورونا، اضطرت الدول إلى اتخاذ إجراءات جذرية وسريعة تهدف إلى انتعاش الاقتصاد مرة ثانية، وإعادة الناس إلى وظائفهم، إضافة إلى توفير فرص عمل جديدة. فكل هذه الإجراءات التي نفذتها الدول كانت بعضها على حساب البيئة، والتي أُطلق عليها "الطُوفة الهبيطة" التي يتجاوزها عادة رجال السياسة والنفوذ، ويسهل تسلقها والقفز عليها بسهولة ويسر، وإهمالها بحجة حماية الاقتصاد، وتوفير الرفاهية للناس، وخلق الوظائف الجديدة.

وهذا ما قام به بالضبط الرئيس الأمريكي ترمب، فمن أجل البدء في انطلاقة سريعة وقوية لعجلة التنمية من جديد، أصدر أمراً تنفيذياً في الرابع من يونيو للوكالات الأمريكية الاتحادية تحت عنوان: "تعجيل استعادة الاقتصاد الوطني لعافيته من كوفيد_19 من خلال التسريع في الاستثمار في البنية التحتية والأنشطة الأخرى". فقد جاء في مقدمة الأمر التنفيذي بأنه "على ضوء التطورات التي تشهدها البلاد فقد قررتُ بأنه بدون تدخلي فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستواجه مشكلة اقتصادية كبيرة وارتفاعاً مشهوداً في البطالة"، كما جاء فيه: "التأخير غير الضروري الناجم عن تنفيذ الأنظمة البيئية يُفوت الفرصة على المواطنين للوظائف والأمن الاقتصادي، ويسبب في جعل الملايين من الأمريكيين بدون وظيفة وعمل ويمنع استراد الاقتصاد لعافيته". ففي هذا الأمر التنفيذي يأمر السلطات الاتحادية إلى البدء فوراً في تنفيذ المشاريع التنموية الكبرى من دون الرجوع إلى إجراءات تقييم الأثر البيئي، أو القيام بالمراجعات البيئية الخاصة بالمشاريع الكبرى، أي بعبارةٍ أخرى السماح بتنفيذ المشاريع حتى ولو كانت ضارة بالبيئة ومدمرة لمواردها وثرواتها البيئية الحية وغير الحية، فكأن البيئة تحولت الآن إلى العائق الكبير أمام التنمية ويقف حجر عثرة أمام التطور وتنفيذ المشاريع!
وقد احتوى الأمر التنفيذي على ستة بنود، هي أهداف الأمر التنفيذي، ثم السياسات، والبند الثالث إلى الخامس حول التسريع في تنفيذ مشاريع البنية التحتية الخاصة بالمواصلات ومشاريع الأشغال والأعمال المدنية ومشاريع البنية التحتية في الأراضي الاتحادية، وأما البند السادس فقد اختص بقانون السياسة البيئية والإجراءات والأنظمة الطارئة الخاصة بها، والتي تسمح بتجاوزها عند حالات الطوارئ.

ومثل هذه السياسات التي تضر بالبيئة وتفسد الهواء والماء والتربة وتدمر الحياة الفطرية تحت مبرر فيروس كورونا والأوضاع الاقتصادية الطارئة، فإنها مع الوقت ستخنق الإنسان نتيجة لتلوث الهواء، وربما تجعله يقول كما قال الأمريكي الأسود الذي قتله الشرطي الأبيض "لا أستطيع التنفس"، ولكن هنا سيكون بسبب ارتفاع تركيز الملوثات السامة الخانقة في الهواء الجوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق