الخميس، 17 أكتوبر 2013

اجتماع لـ 140 دولة من أجل الزئبق





عندما زرتُ اليابان قبل 22 عاماً، وبالتحديد في نوفمبر 1991، لتقديم بحثٍ بيئيٍ في مؤتمرٍ دولي حول الملوثات في البيئة البحرية، وبعد الانتهاء من أعمال المؤتمر، قام المنظمون بترتيب زياراتٍ سياحية للمشاركين للإطلاع على بعض المعالم الرئيسة في اليابان والموجودة بالقرب من مدينة كيوتو العريقة، ولكن هذه الزيارات السياحية لم تكن جولات تقليدية إلى المواقع السياحية المعروفة عند عامة الناس، كالمتنزهات والحدائق العامة، أو المواقع الأثرية، أو حدائق الحيوانات، وإنما كانت إلى المواقع التي أُطلقُ عليها “سياحة الكوارث البيئية”، أي زيارة المناطق التي وقعت فيها كوارث بشرية، وسقط الكثير من الضحايا البشرية بسبب أيدي الإنسان الآثمة التي سمحت للملوثات السامة والخطرة من الدخول في مكونات البيئة من ماءٍ أو هواءٍ أو تربة.

وكانت الزيارة السياحية إلى واحدة من أخطر الكوارث البيئية التي شهدتها الإنسانية، وأشدها وطأة عليه وعلى صحة بيئته، ليس على مستوى اليابان فحسب، وإنما على مستوى الكرة الأرضية برمتها، وهي مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا(Minamata Bay) في مقاطعة كوماموتو(Kumamoto Prefecture)، حيث لقي هناك الآلاف مصرعهم في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وسقط آلافٍ آخرين مرضى مصابين بوباءٍ غريب لم يعرف له المجتمع الطبي مثيلاً، ووقف الأطباء في الشرق والغرب حائرين أمام الأعراض المرضية التي نزلت على سكان مدينة ميناماتا فجأة واحدة، وكأنها صاعقة قاتلة ضربت هذه المدينة من الكرة الأرضية.

وهذه الجولة شملت متحفاً يُخلد هذه الكارثة، ويُذكر الناس دائماً وأبداً بوقوعها، ويسطر عن كثب آلام ومعاناة الأطفال والرجال والنساء الذين أصابهم المرض، ومازلت أتذكر حتى يومنا هذا آلاف القصص الواقعية التي جاء بها المتحف بالصور الفوتوغرافية المؤلمة، ومنها لطفلة قد وُلدت في يوليو عام 1956 في إحدى قرى مدينة ميناماتا، وبعد ولادتها بفترة بسيطة جداً أحس والداها بأنها غير طبيعية، وأنها تعاني من أمرٍ غامض، فحركاتها وتصرفاتها ونموها لم يكونوا في الوقت الطبيعي، والأعضاء والأطراف كانت مشوهة وبها إعاقات مختلفة، حتى إنها بلغت ثلاث سنوات ومازالت لم تتمكن من المشي، فأدخلوها مركزاً صحياً خاصاً لمدة أربع سنوات لتعلم المشي وحركة اليدين، ولكنها بعد كل هذه الجهود الطبية لم تتعاف فماتت من هذا المرض الغامض.

ومن حسن الحظ أنني أثناء هذه الزيارات تعرفتُ على بعض الأطباء الذين عاصروا هذا المرض منذ بداياته وشاركوا في تشخيصه والتعرف على أسبابه، وطلبت منهم بعض الصور لضحايا هذا المرض، فوضعتها في كتابي تحت عنوان “كوارث وضحايا: قصص بيئية واقعية”، حيث خصصت فصلاً واحداً لهذا المرض الذي أُطلقَ عليه مرض ميناماتا.

فقد كانت تصرفات الإنسان هي السبب في وقوع هذه الكارثة، وتمثلت في عمل بسيطٍ جداً وهو قيام مصنع شيسو(Chisso Corporation) بصرف مخلفات سائلة تحتوي على عنصر الزئبق السام إلى خليج ميناماتا، والزئبق من الملوثات التي لا تتحلل ولها القدرة على التراكم في السلسلة الغذائية، ولذلك بعد دخوله إلى البيئة البحرية، انتقل مع الوقت من التربة إلى الكائنات النباتية والحيوانية العالقة في الماء، ثم إلى الأسماك الصغيرة والكبيرة، وأخيراً إلى الحيوانات مثل القطط والطيور البحرية والإنسان حيث وصل تركيزه إلى مستويات عالية جداً. كما أن خطورة الزئبق تكمن في أنه ينتقل من الأم إلى جنينها، أي أنه ينتقل عبر الأجيال من جيلٍ إلى آخر، ولذلك لم ينته المرض في جيل الخمسينيات الذي تعرض مباشرة لهذا السم، وإنما هناك المئات الذي يصابون بهذا المرض حتى يومنا هذا، أي بعد أكثر من ستين عاماً على اكتشافه. وعلاوة على ذلك، فإن الزئبق ينتقل من منطقة إلى أخرى عبر الحدود الجغرافية سواء عن طريق التيارات المائية أو الرياح، فقد أكد الباحثون من جامعة شيجا( Shiga Prefectural University) في الخامس من أكتوبر من العام الجاري عن اكتشاف الزئبق في قمة جبل فوجي الياباني المعروف عالمياً(Mount Fuji)، وعلى ارتفاع أعلى من أربعة كيلومترات فوق سطح البحر.

فهذه الحقائق المخيفة المتعلقة بالزئبق، ودوره الخطير في قتل الإنسان في كافة أرجاء العالم، اضطر المجتمع الدولي وعلى رأسهم اليابان، المتضرر الأول من هذا الملوث، إلى مواجهة الزئبق بشكلٍ جماعي والتعاون مع بعض على التخلص منه مع الوقت، وبذل الجهود المشتركة على إدارة ما هو موجود حالياً بطريقة بيئية وصحية سليمتين، وقد تُوج هذا الجهد الجماعي المشترك في 11 أكتوبر من العام الجاري عندما وافقت دول العالم تحت مظلة الأمم المتحدة على اتفاقية ميناماتا للزئبق(Minamata Convention on Mercury)، والتي أكدت على تقنين استخدام واستيراد الزئبق بين دول العالم من أجل منع التداعيات البيئية والصحية التي تنجم عن تعرض الإنسان للزئبق، كما أفادت إلى ضرورة أخذ كافة الاحتياطات والإجراءات اللازمة عند إنتاج، وتصدير أو استيراد الزئبق أو مركباته أو المنتجات التي تحتوي عليه مثل مصابيح الفلوروسينت.

فإذا كان هذا الملوث البسيط وهو الزئبق قد دوخ اليابان ودول العالم لأكثر من سبعين عاماً، وأنزل على الإنسان كوارث خطيرة أودت بحياة عشرات الآلاف، فماذا عن آلاف الملوثات السامة والخطرة والمشعة التي تدخل بيئتنا في كل ثانية منذ أكثر من قرن؟                        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق