الجمعة، 14 فبراير 2014

الطائرات بدون طيار



سُمعة الطائرات بدون طيار سيئة للغاية ويتشاءم الإنسان عند سماعها، فهي كما نرى ونسمع تُستخدم لاغتيال الناس دون تهمة أو محاكمة في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال وفلسطين، أو تستعمل لانتهاك حرمات وسيادة الدول بالتجسس عليها وعلى مرافقها ومصالحها الحيوية.

ولكن هذا الأمر ينطبق على كل أدوات ووسائل التقنية الحديثة، فهي سلاح ذو حدين، وأدوات يمكن أن تستخدم للخير أو الشر، للبناء أو الهدم، وللإعمار في الأرض أو للإفساد فيها، ولرعاية الإنسان وحمايته أو لهلاكه والقضاء عليه، فالإنسان نفسه هو الذي صنعها وأنتجها وهو الذي يحدد مجالات وكيفية ووقت ومكان استخدامها.

فاليوم نسمع عن استخدامٍ مفيد ونافع لهذه الطائرات بدون طيار في مجال حماية البيئة والحفاظ على نوعية الهواء الجوي ومراقبة محتوياتها ومكوناتها، وبالتحديد في مجال قياس نسبة الملوثات الإشعاعية النووية في الهواء الجوي في منطقة كارثة انصهار مفاعلات دايشي النووية(Daiichi) في فوكوشيما باليابان في 11 مارس2011.

فهذه الطامة الكبرى التي زادت وفاقت تداعياتها البيئية والصحية عن كارثة انفجار المفاعلات النووية في تشرنوبيل بأوكرانيا في 26 أبريل 1986، تُشكل منذ وقوعها معضلة معقدة وخطيرة تهدد صحة وبيئة الإنسان الياباني خاصة، وبيئة وصحة الإنسان في كافة أرجاء الكرة الأرضية، فلا بد إذن من مراقبة هذه الانعكاسات لسنواتٍ طويلةٍ قادمة والتعرف على تركيز الملوثات التي تراكمت مع الوقت في أحشاء الأوساط البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وفي أعضاء أجسام الكائنات الفطرية من نباتات وحيوانات، إضافة إلى قياس تضخم تركيزها في أعضاء جسم الإنسان والمنتجات اليومية التي يستهلكها داخل اليابان، أو يصدرها إلى جميع دول العالم.

وقد قامت وكالة الطاقة الذرية اليابانية بالتعاون مع وكالة استكشاف الفضاء في اليابان بتصميمِ وتطوير طائرةٍ خاصة بدون طيار لقياس تركيز الإشعاع النووي حول المحطة في مدينة نامي(Namie)، بحيث يتم تشغيلها عن بعد، ولها القدرة على الطيران في ارتفاعات متفاوتة لا تقل عن 300 مترٍ، فتقوم الطائرة بالمراقبة المستمرة وجمع المعلومات الإشعاعية حول المحطة، ثم نقل هذه المعلومات إلى المختبرات لتحليلها ومعرفة نتائج ونسبة الإشعاع في الهواء الجوي.

وهذه المراقبة الدائمة لبيئة منطقة الكارثة يجب أن تستمر عقوداً طويلة من الزمن، فمصادر الإشعاع مازالت حتى يومنا هذا جاثمة على صدور اليابانيين، فتَبْعث بسمومها المشعة القاتلة إلى البر والبحر والمياه الجوفية والتربة، حتى أن المدينة التي يقع فيها المفاعل المنكوب قد تم إغلاقها كلياً، فهي تجدها الآن مدينة كاملة بكافة مرافقها وبنيتها التحتية، من شوارع، ومنازل، ومكاتب، ومحلات تجارية، وآلاف السيارات المتوقفة التي بدأ الصدأ يأكل وينخر في جسمها، ولكنها مع ذلك خالية تماماً من جنس البشر، فأصبحت خاوية على عروشها، وتحولت إلى مأوى خصب للأشباح وبيئة مثالية ستعشش فيها الطيور الليلية التي عادةً ما تعيش في مناطق نائية هادئة وبعيدة عن إزعاج البشر وضجيج المدن وضوضائها المرتفعة الصاخبة، مثل البوم والخفاش لسنواتٍ طويلة.   

وقد أكدت التقارير الحكومية الرسمية أن هذه المدينة ستكون مغلقة بالشمع الأحمر على بني البشر، ويُـمنع أي إنسانٍ من دخولها لمدة لا تقل عن أربعين عاماً، أي أن السكان الأصليين لهذه المدينة الذين ولدوا فيها وترعرعوا تحت ظلها أجيالاً متلاحقة قد يَلقَوا نحبهم قبل أن يتمكنوا من الرجوع إلى ديارهم التي ارْغِموا على هجرتها وتحولوا إلى لاجئين بعد نزول هذه المصيبة العظيمة.

ولذلك سيكون اسم مدينة فوكوشيما معنا لقرون من الزمن، كما هو بالنسبة لاسم مدينة تشرنوبيل، فمثل هذه الكوارث الإشعاعية النووية إذا وقعت ستظل في ذاكرة الإنسان منقوشة ومحفورة لا يمكن نسيانها، وستخلدها كتب التاريخ البيئي ليتعظ منها من يريد أن يتعظ، ويستفيد منها من يريد أن يتعلم، ليُجنب نفسه وبيئته أخطار وتهديدات التلوث البيئي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق