الجمعة، 19 سبتمبر 2014

عائلة "الثاليدوميد"



 
مهما أَكونُ بارعاً ومحترفاً في مجال الكتابة والبلاغة اللغوية، ومهما أكون موهوباً وماهراً في وصف وتصوير دقائق الصور الفوتوغرافية، فلن أتمكن من إعطاء الصور التي رأيتها أمامي حقها ودلالاتها الحقيقية المخيفة، ولن أستطيع أن أُقدم لكم بشاعة هذه الصور من خلال قلمي الضعيف إلا إذا رأيتم بأنفسكم وشاهدتم بأعينكم فظاعتها ورعبها، فيعجز بديع وعظيم لغتنا العربية عن بيانها ووصفها والتعبير عنها.

فهذه الصور التي نُشرتْ مؤخراً في صحيفة الجارديان البريطانية عبارة عن ألبوم خاص لأفراد عائلة بريطانية، فتشاهد في هذا الألبوم الخاص صور أفراد هذه العائلة المنكوبة منذ ولادتهم وحتى يومنا هذا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر مصيره وقَدَره، وهذه العائلة التي تعيش حالياً في بريطانيا في مدينة (Cheltenham) أُطلق عليها اسم غريب، ولقب غير مألوف، وهو عائلة الثاليدوميد، وهو يرمز إلى العائلة المـُشوهة والمعوقة خَلْقياً وجسدياً منذ ولادتها، والتي تعاني عشرات السنين من هذه التشوهات الخَلْقية الغريبة والنادرة في عالم البشر.

فإحدى هذه الصور التي تشاهدها في ألبوم العائلة لطفلة اسمها لويس مديس(Louise Medus)، وهي البِنتْ الأخيرة التي وُلدت مشوهة في عائلة الثاليدوميد في 23 يونيو 1962 في مدينة (Enfield) وقد تأثرت بشكلٍ مشهود بتداعيات استخدام دواء "الثاليدوميد" الذي تم وصفه لوالدتها الحامل بهذه الطفلة لعلاج الآلام والقيء الشديد أثناء فترة الصباح، وهذه الأعراض النادرة التي تصيب المرأة الحامل عند الصباح تُعرف بمرض (hyperemesis gravidarum)، وفي نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم كان "الدواء السحري" لعلاج هذا المرض هو كبسولة الثاليدوميد البيضاءالتي كانت تباع تحت مسمى تجاري هو ديستافال(Distaval)، وتنتجها شركة ألمانية متخصصة في صناعة العقاقير هي جرونينثال(Grünenthal)، وجدير بالذكر أنالأميرة كَيت زوجة الأمير ويليام وهي في حملها الثاني الآن مصابة بهذا المرض.

ولكن هذا الدواء السحري الذي كان يُعالج آلام المرأة الحامل، كان له في الوقت نفسه انعكاسات خطيرة جداً لم يعرفها الإنسان في تلك الفترة، فصورة هذه الطفلة وهي صغيرة، ثم صورتها وهي كبيرة ومشوهة عضوياً، تثبت واقعية هذه التداعيات المزمنة والمؤلمة جسدياً وعقلياً ونفسياً للطفلة المصابة نفسها ولكافة أفراد الأسرة.

ولكي تعرف فظاعة هذه الحالة والأثر العميق والمستدام الذي يحفره في النفس البشرية، أرجو أن تتخيل معي هذا المشهد. فتصور أنت والدٌ تنتظر بفارغ الصبر مولوداً جديداً يحمل اسمك، ويرفع شأنك، ويواسيك عندما تكبر ويضعف بدنك ويشتعل رأسك شيباً، ثم تسمع خبر الولادة فتذهب سريعاً لإلقاء النظرة الأولى على فلذة كبدك، وإذا بك تفاجأ بطفلٍ غير الأطفال العاديين، ومولودٍ غريب، فلا يد له، أو لا أرجل كاملة له، أو له أطراف غريبة كأطراف الحيوانات، وله جسم غير مكتمل يختلف عن جسم الطفل الطبيعي، فماذا ستكون نفسيتك عندما تشهد بعينيك هذا المنظر الغريب، الذي هو لابنك المعوق والمشوه؟ وكيف ستكون حالتك بعد هذا المشهد الدراماتيكي المؤلم؟ لا شك بأنك ستصاب بإحباط واكتئابٍ شديدين، وهمٍ وغمٍ عظيمين لا يمكن وصفه، وستقاسي من جرحٍ عميق لا يندمل، وستعاني منه طوال سنوات حياتك، فبعد هذا الانتظار الطويل، وبعد هذا الأمل المعقود على ولادة طفلٍ سليم، تُرزق بمثل هذا "المخلوق الغريب".

فهذا المشهد الذي وصفته لكم لم يحدث لعائلة واحدة فقط في بريطانيا، وإنما وقع لعشرات الآلاف من الأسر في أكثر من 46 دولة، أي أن هذا الألم العميق، وهذه الكارثة النفسية والعضوية ألمت بالإنسان في معظم دول العالم، مما يستدعي منا وقفة متأملة وطويلة لتجنب نزول مثل هذه الطامة الكبرى علينا وعلى أحفادنا، والعمل على تبني وتنفيذ كافة الاحتياطات والإجراءات اللازمة لمنع وقوعها في بلادنا. ويمكن تلخيص هذه الإجراءات في عدم الاستعجال في إدخال الأدوية الجديدة إلى بلادنا إلا بعد التحقق والتثبت من الآثار الجانبية الطويلة المدى لهذه الأدوية وأضرارها المتوقعة على الإنسان نفسه وعلى الأجيال اللاحقة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق