الثلاثاء، 9 سبتمبر 2014

علاوة التلوث



هناك عدة عوامل تجذب وتشجع العقول الأجنبية الفريدة والقادة التنفيذيين المتميزين والشركات الاستثمارية والدولية للانتقال إلى بلدٍ محدد، ومن هذه العوامل الجوانب الاقتصادية المتعلقة بالضرائب التي تفرضها تلك الدولة، والتسهيلات المالية التي تقدمها للأفراد والشركات، ومنها العامل الأمني من حيث استقرار الدولة وخلوها من الإضرابات العنيفة والمعرقلة لحركة النمو، إضافة إلى الأبعاد المتعلقة بالبنية التحتية في تلك الدولة وتوافر الخدمات الأساسية الضرورية من مطارات جوية وبرية، وموانئ، وشوارع ممهدة وواسعة، وأماكن الترفيه والتسلية، ووسائل الاتصال والمواصلات، وكل هذه الجوانب تدخل ضمن العوامل التقليدية المعروفة منذ عقود.


 


ولكن برز في السنوات الماضية عامل مهم جداً يؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ قرار الانتقال إلى بلدٍ آخر للعمل، سواء على المستوى الشخصي أو مستوى الشركات، وهو البيئة السليمة والصحية والنظيفة، وبخاصة نوعية الهواء الجوي وخلوها من الملوثات القاتلة، ونوعية مياه الشرب والمياه السطحية وسلامتها للاستهلاك الآدمي، فهذا البعد الجديد مرتبط ارتباطاً وثيقاً وقوياً بصحة الإنسان وسلامة بَدَنِه، وعادةً لا يُضحي الإنسان بصحته من أجل لقمة العيش، إلا عند الضرورة القصوى، والحاجة الملحة، وعدم وجود البديل المناسب.


 


ولذلك فالشركات الكبرى متعددة الجنسيات المضطرة لفتح فروعٍ لها في المدن الكبيرة المعروفة بتلوث هوائها وفساد مائها، ابتدعت فكرة جديدة لجذب التنفيذيين الأكفاء ذي الكفاءات العالية، والخبرات الفريدة التي لا يمكن الاستغناء عنهم، وتتمثل في إغراء وتحفيز هؤلاء الأفراد إلى العمل في هذه المدن، وتـَحَمُل تداعيات تلوث الهواء والماء من خلال استحداث مكافأة خاصة، أو علاوة جديدة هي "علاوة التلوث". وتشتمل هذه العلاوة على مبلغٍ مالي نقدي، إضافة إلى شراء أجهزة ومعدات لمنازلهم تقوم بتنقية وتصفية وترشيح الهواء الجوي الخارجي قبل دخوله إلى المنزل.


 


وهذه الحالة التي أتحدث عنها ليست افتراضية وليست نظرية من نسج الخيال، وإنما هي حقيقة واقعة في بعض مدن العالم، وعلى رأسها مدن الصين كالعاصمة بكين وشنغهاي. 


 


فعلى سبيل المثال قامت شركة كوكا كولا في بكين بمنح الأجانب غير الصينيين العاملين في الشركة علاوة خاصة أَطلقت عليها "علاوة خطر التلوث"، وذلك اعترافاً منها بحجم التلوث في العاصمة الصينية، وشدة معاناة الناس من هذا التلوث المـُؤثر على صحتهم وسلامة أجسامهم، وبخاصة من حيث الفساد الشديد الذي أصاب نوعية الهواء، فبكين تشتهر منذ عقود بانكشاف ظاهرة خطيرة تنزل عليها بين الحين والآخر فتُلقى الرعب والخوف في نفوس الساكنين والمواطنين، وتعرف بالضباب الضوئي الكيميائي.


 


فهذه الظاهرة التي تعاني منها بكين ليست محلية الصنع وخاصة بهذه المدينة، وإنما هي ظاهرة عالمية تقاسي منها معظم المدن الحضرية والصناعية في العالم، بما فيها البحرين، وهي ليست ظاهرة جديدة انكشفت في هذا القرن، وإنما هي مشكلة بيئية قديمة ومتجددة ظهرت أولاً في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم.


 


فهذه المشكلة تنتج عن انطلاق الملوثات من وسائل النقل بصفةٍ خاصة، وبالتحديد السيارات، حيث تنبعث منها غازات أكاسيد النيتروجين، ومجموعة من الغازات الأخرى التي يُطلق عليها بالملوثات العضوية المتطايرة، وهذه الغازات عند وجودها في الهواء الجوي وأثناء سطوع أشعة الشمس الحارة تتفاعل مع بعض لُتنتج خليطاً معقداً وخطيراً من الملوثات السامة التي تهدد صحة كل إنسان، أو حيوان، أو طير، أو جماد يتعرض لها، وتُعرف علمياً بالملوثات المؤكسدة، وعلى رأسها غاز الأوزون المعروف بسميته العالية للإنسان والحيوان، وتأثيره المباشر على مواد البناء. وهذه الملوثات المؤكسدة تتراكم في الهواء ويزداد تركيزها مع الوقت، وتُكَون سحباً بُنية صفراء اللون تظهر في السماء ويمكن للجميع مشاهدتها بكل جلاءٍ ووضوح فلا تخفى على أحد، وعندما تظهر هذه السحب تدق وسائل الإعلام أجراسها محذرة الناس من الخروج من منازلهم، أو ممارسة الأنشطة خارج المنزل أو المكتب، فهي سحب تدمر صحة الإنسان، وتُسبب له العديد من الأمراض التي قد تكون قاتلة ومهلكة.


 


فلا عجب إذن أن يهرب الناس من هذه المدن الملوثة، ويتجنبون العمل فيها حفاظاً على صحتهم وصحة أبنائهم وأسرهم، ولا عجب في المقابل أن تضطر بعض الدول، أو الشركات الكبرى إلى إبداع طرق ووسائل جديدة غير تقليدية تواكب هذه التطورات المستجدة للتغلب على هذه الأزمة البيئية الصحية، وذلك من خلال التشجيع والدعم المادي والعلاوات المالية لترغيب الأفراد ذي الكفاءات العالية والخبرات الطويلة والمتميزة للعمل في هذه الدول، والبقاء فيها أطول فترة ممكنة من الزمن.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق