الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

وأخيراً حَكَمَتْ المحكمة


من عجائب هذه القصة التي سأرويها لكم أن جمعية أهلية بريطانية أعضاؤها من المحامين والحقوقيين ورجال القانون اسمها "زبون الأرض"(ClientEarth) تَرفع شكوى بيئية وصحية في الوقت نفسه في محكمة العدل الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي ضد حكومتها، أي ضد الحكومة البريطانية!

 

ولكن هذه الجمعية البريطانية لم تلجأ إلى الشكوى للغريب والبعيد ضد حكومتها بين عشيةٍ وضحاها، ودون إعطاء الحكومة الفرصة الكافية والوقت المناسب للنظر في دعواها والتداول في حيثيات شكواها، وإنما انتظرت سنواتٍ طويلة عجاف، وصبرت كثيراً على المعاناة والمرض لعل حكومتها تحرك ساكناً، وتعمل على علاج مشكلاتها، ولكن بعد أن نفد الصبر، وتفاقمت الأزمة، وفشلت الحكومة في علاج المشكلة، اضطرت هذه الجمعية إلى الذهاب إلى محكمة العدل الأوروبية.

 

وقد جاءت مبررات رفع الدعوى ضد الحكومة البريطانية على لسان محامي الجمعية الذي قال:"إن من حق كل مواطن أن يستنشق هواء نظيفاً وعليلاً ونقياً وأن يعيش في بيئةٍ صحيةٍ وسليمة، وعندما تفشل الحكومة في حمايتنا من التلوث الضار بصحتنا وصحة بيئتنا، فنحن لدينا الحق في اللجوء إلى المحاكم للمطالبة بحقوقنا، وكلما تأخرت الحكومة في اتخاذ الإجراءات المناسبة، كلما زاد أعداد المرضى والموتى".

 

فالقضية إذن تأتي في باب "حقوق المواطن الأساسية"، وبالتحديد "الأمن البيئي والصحي"، والدول والحكومات واجبها إعطاء هذه الحقوق وتأمينها للمواطن، وفي حالة عدم القيام بهذا الواجب، أو التقصير فيه ، أو فشلها في برامجها، فيجب محاسبتها بكل الوسائل القانونية المتاحة. فإحصاءات منظمة الصحة العالمية المتعلقة بتلوث الهواء، وبالتحديد من الجسيمات الدقيقة، تؤكد الموت المبكر لنحو سبعة ملايين إنسان سنوياً على المستوى الدولي، كما تفيد تقارير الاتحاد الأوروبي عن الموت المبكر لأكثر من 40 ألفسنوياً على مستوى الاتحاد الأوروبي بسبب تلوث الهواء، وفي بريطانيا عدد الهالكين من فساد الهواء يبلغ قرابة 29 ألف، وعلاوة على هذه الأعداد المرتفعة من البشر الذين يسقطون ضحايا سنوياً، فإن تلوث الهواء حسب إحصاءات وكالة البيئة الأوروبية المنشورة في 25 نوفمبر يُكبد بريطانيا خسائر مالية تقدر بأكثر من عشرة بلايين جنيه، كما اعترف علماء بريطانيا بأن "شارع أكسفورد" والمعروف بأكسفورد ستريت هو الأسوأ في العالم بالنسبة لتركيز الملوثات في هوائها.

 

ولذلك فالقضية مسألة حياةٍ أو موت، مسألة أن يعيش الإنسان بصحة وعافية وسعادة، أو أن يعيش طوال حياته في بؤس وشقاء وهو يعاني من الأسقام والعلل المزمنة، وقد تم رفع قضايا عدة ضد الحكومة لأكثر من عشر سنوات لعلاج هذه الظاهرة المدمرة لصحة الإنسان، ولكن دون جدوى، كما أن الاتحاد الأوروبي هدد بريطانيا وحذرها مراتٍ كثيرة على تجاوزها للحدود المسموح بها لتركيز بعض الملوثات في الهواء الجوي وأنذرها بضرورة التقيد والالتزام بالمعايير والمواصفات الأوروبية المتعلقة بجودة الهواء الجوي، وبالرغم من كل هذه الجهود إلا أن الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تفعل بجدية وفاعلية لتلبية هذا الحق الدستوري للمواطن.

 

فجاء أخيراً وبعد طول انتظار، وانتهت وقائع هذه القصة في19 نوفمبر من العام الجاري، عندما صدر الحُكم لصالح الجمعية الأهلية البريطانية، حيث اتخذت محكمة العدل الأوروبية قراراً حاسماً وواضحاً وهو أن على بريطانيا اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة فوراً وبصفة مستعجلة لخفض مستوى الملوثات في الهواء الجوي والالتزام بأنظمة الاتحاد الأوروبي، ويُعد هذا الحكم تاريخياً في مسيرة الاتحاد الأوروبي، فيعتبر الأول من نوعه في مجال تنفيذ القانون الأوروبي حول جودة الهواء.

 

وأتمنى من دول مجلس التعاون أن يقتدوا بالاتحاد الأوروبي في وضع قوانين صارمة مشتركة لجودة الهواء، ويحددوا آلية واضحة لتطبيقها ومعاقبة من لا يلتزم بها، حتى يكون هواؤنا دائماً سليماً ونقياً ويحمي صحتنا من الأمراض والأسقام.  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق