الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

درسٌ أمريكي للصين


أزمة خانقة ومزمنة تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد مدينة لوس أنجلوس، مدينة هوليود وصناعة الأفلام بولاية كاليفورنيا منذ مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، ومنذ ذلك الوقت ومدينة لوس أنجلوس تقاسي من غزوٍ خارجي، وتواجه عدواً صنديداً مُقاوم، وتخوض حرباً شرسة طويلة الأمد لإيقاف هذا الغزو، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة لهزيمته، فتكسب جولة من المعارك وتخسر جولة أخرى، وهي مازالت على هذه الحالة من الكر والفر، والنجاح والفشل.

 

هذه الحرب التي تخوضها مدينة لوس أنجلوس تتمثل في ظهور السحب البنية الصفراء اللون، أو ما يُطلق عليه الآن بالضباب الضوئي الكيميائي المليء بالملوثات السامة والمشحون بالمركبات القاتلة، وهي عندما تنكشف في السماء تدق أجراس الإنذار، وتصيح وسائل الإعلام منذرة الناس إلى عدم الخروج من منازلهم وتجنب ممارسة الأنشطة في البيئات الخارجية، حتى إن هذه الأزمة الخانقة عندما تشتد وتصل ذروتها تغلق المدارس أبوابها وتتوقف وتنشل حركة السيارات والطائرات. 

 

ويصف عمدة لوس أنجلوس، إرك جارسيتي(Eric Garcetti) هذه الظاهرة البيئية والصحية الخطيرة وهي في مهدها في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث كان الظهور الأول للضباب القاتل أثناء الحرب العالمية الثانية، فقال: "لقد كان مشهد الهواء الجوي سيئاً، والضباب كثيفاً لدرجةٍ كبيرة انعدمت فيها الرؤية، حتى أن الناس ظنوا أن لوس أنجلوس قد تعرضت لهجومٍ كيميائي من قنبلةٍ كيميائية يابانية"، وأضاف العمدة قائلاً: "أننا في تلك الحقبة الزمنية كُنا نستنشق ونتنفس أقذر هواء، وأشُده تلوثاً في العالم، فالأطفال مُنعوا من اللعب في الخارج، وغرف الطوارئ امتلأت بالمرضى".

 

واليوم هذه الأزمة نفسها تظهر وتنكشف في مدينة أخرى في الضفة الشرقية من كوكبنا، وبالتحديد العاصمة الصينية بكين، فتكشر عن أنيابها وتهدد صحة وسلامة الناس وتصيبهم بالموت المبكر والأمراض المزمنة والمستعصية.

 

فبكين بدأت تعاني من هذا الضباب القاتل منذ سنواتٍ معدودة، فتجربتها قليلة، وخبرتها بسيطة مع هذه الحرب البيئية الشرسة، ولذلك هي بأمس الحاجة لتلقي الدروس من المدن التي عانت من هذا الضباب، والتعلم من سبل وطرق مواجهة هذا العدو وخوض معارك رابحة ضده، فالمـُعلم الأول، والخبير الأوحد الذي التحم مع هذا العدو وخاض معارك طويلة ضده، ومازال حتى يومنا هذا هو مدينة لوس أنجلوس.

 

فاضطر عمدة لوس أنجلوس إلى شد الرحال إلى بكين في ديسمبر من العام الجاري لإلقاء محاضرة عن كيفية خوض هذه الحرب الماراثونية، وإعطاء الدروس للصينيين لاستراتيجيات كسب هذه الحرب التي لا تميز بين فقيرٍ أو غني، صغيرٍ أو كبير، وزيرٍ أو غفير، فالجميع مستهدف، وقد يقع فريسة سهلة لتداعياتها ومخاطرها.

 

وقد لخص العمدة الدروس والعبر التي تعلمتها لوس أنجلوس من معاركها الطويلة والمستمرة مع هذا العدو في نقطتين رئيستين. الأولى هي الاعتراف الرسمي بوجود هذا العدو وواقعتيه على الأرض، ثم الاعتراف بالتهديدات البيئية والصحية الحادة والمزمنة التي يلحقه بالهواء الجوي وبصحة الناس، فالصين منذ سنواتٍ طويلة كانت لا تعترف بوجود هذا العدو وتنكر واقعيته، وكانت تؤكد بأن هذه السحب التي تنكشف بشكلٍ يومي طبيعية وما هي إلا الضباب العادي الذي ينكشف في كل دول العالم، ولذلك لا توجد أية أضرار من وقوعه. والهدف من الاعتراف هو حث وتشجيع كافة أجهزة الدولة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، إضافة إلى الجمعيات الأهلية والجامعات ومراكز الأبحاث للعمل يداً واحدة لمكافحة هذا العدو المشترك للبلاد، والإسهام الجماعي في خطط مواجهته والتصدي له. والثانية فهي سن تشريعاتٍ صارمة لخفض كافة الانبعاثات التي تؤدي إلى تكوين هذه السحب من مصادرها المتعددة، والعمل على تشديد تنفيذ هذه التشريعات على الجميع، سواء أكانت مصانع حكومية أو خاصة.

 

أما الدرس الذي تعلمته شخصياً من هاتين الحالتين هو أننا يجب في البحرين أن ننمي بلادنا اقتصادياً واجتماعياً دون أن ندمرها بيئياً وندمر صحتنا معها، وأن نقوم بتعميرها دون إفسادها، فالمطلوب هو التوازن الدقيق والتوافق بين كل متطلبات الحياة، من اقتصادٍ مزدهر، ومعيشة كريمةٍ، وهواءٍ سليم، وماءٍ نقي وصافي، وبحر منتجٍ ومعطاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق