الخميس، 25 ديسمبر 2014

كارثةٌ جَفَّت أقلامها وطُويتْ صُحفها



لو وقعتْ هذه الكارثة البليغة التي سقط ضحيتها مئات الآلاف بين قتيلٍ وجريح في سويعات قليلة في الدول الصناعية، أو الدول المتقدمة لتغير الاهتمام بها، ولتسابقت وسائل الإعلام في تغطيتها ونشر تفاصيلها يومياً، وإحياء ذكراها كل سنة، ولتمت ملاحقة المتهمين والجناة إلى يوم القيامة، ولكن هذه الطامة الكبرى دخلت في غياهب ظلمات التاريخ، ورفعت أقلامها وطويت صحفها، وغابت عن رعاية الناس والدول ومنظمات الأمم المتحدة، وسقطت من قائمة أولوياتهم لأنها نزلت في دولةٍ نامية وعلى الفقراء والمستضعفين منهم الذين لا حول لهم ولا قوة، وليست لديهم الإمكانات المالية والعلمية للدفاع عن أنفسهم وعن من سقطوا ضحايا في هذه الكارثة.

هذه النكبة البشرية العظمى هي كارثة بوبال التي وقعت قبل نحو ثلاثين عاماً في مثل هذا الشهر، وصُنفَت في حينها كأسوأ كارثة كيماوية صناعية في تاريخ البشرية، ومازالت حتى الآن تحتل المرتبة الأولى في قائمة الكوارث البيئية، ولا ينافسها في هذه المرتبة إلا كارثة تشرنوبيل النووية.

ففي مطلع السبعينيات من القرن المنصرم بدأ مصنع هندي أمريكي هو يونيون كاربيد(Union Carbide plant) والذي تملكه الآن شركة داو للكيماويات(Dow Chemical) بإنتاج مبيدٍ يعرف تجارياً تحت اسم سيفن (Sevin) في مدينة بوبال التي يسكنها 1.8 مليون نسمة. وكما هو الحال في معظم الدول النامية، اعتبرت الحكومة هذا المصنع شريان الحياة للفقراء والمحتاجين، فيُوفر لهم الوظيفة الآمنة، ويحسن أحوالهم ومعاشهم، فيحول حياتهم من بؤسٍ وشقاء إلى سعادةٍ وهناء، ومن فقرٍ وضعف إلى غنىً وثراء، ومن جهلٍ وتخلف إلى علمٍ وتقدم.

فشرع هذا المصنع المـُـنقذ لحياة الناس بإنتاج أطنانٍ من المبيد، وكدسه في خزانات في موقع المصنع بطرقٍ بدائية رخيصة، لا تلتزم بأدنى معايير الأمن والسلامة، وتفتقد إلى أسس الرعاية السليمة، ومع هذه الممارسات الخاطئة التي استمرت عدة سنوات، كأنهم بدأوا بتشغيل ساعة انفجار قنبلةٍ موقوتة، فدقت عقاربها وبدأ العد التنازلي حتى وصل إلى دقيقة الصفر وهي ليلة الثاني من ديسمبر 1984، حيث كانت السماء صافية، والنجوم تتلألأ في الأعالي، والأجرام تُزين السماء الدنيا بالأنوار الجميلة والساطعة التي تتغلغل كالسهام فتضيء ظلمة الليل، وما هي إلا لحظات حتى تحول فيها الأمن والسكون إلى جحيمٍ مسعور يلتهب ناره على النائمين والآمنين في منازلهم، فقد تسرب من الخزانات زهاء 27 طناً من أشد الغازات سمية وفتكاً بالإنسان والحيوان والطير وهو المبيد ميثيل أيسو سينيت(methylisocyanate)، فانطلق كالقنبلة الكيميائية إلى الهواء مكوناً سحباً قاتلة نزلت على الناس وهم في غفلةٍ ونومٍ عميقين، فقضت فوراً على قرابة عشرة آلاف من البشر، حتى أن الطيور تسممت فسقطت صرعى من أشجارها، فقد تحولت المدينة فجأة إلى ساحة حرب، ترى فيها الناس صرعى كأنهم أعجازٍ نخل خاوية، فالجثث البشرية منتشرة في كل شارع، وفي كل طريق، وفي كل منزل، والمصابون والجرحى الذين بلغ عددهم نحو 200 ألف يركضون في الطرقات من شدة الوقع والألم الذي باغتهم فجأةً بدون سابق إنذار، وكأنهم حُمرٌ مستنفرة فرَّت من قَسْوَرة، فامتلأت المستشفيات والمراكز الصحية، حتى أن الآلاف من الناس افترشوا الأرض وتلحفوا السماء انتظاراً للعلاج والدواء، ولم ينته الأمر هنا وفي ذلك اليوم الكئيب، وإنما انتقلت آثار التعرض للسم إلى الأجيال اللاحقة، ومازالت المعاناة حتى يومنا هذا، فالكثير من النساء وضعن أجنة مصابة بعاهات جسدية، وعيوب خَلْقية منها فقدان للبصر أو السمع، أو التخلف العقلي، أو تغير لون الجلد، أو التشوه في بعض الأعضاء، أو الولادات المبكرة.

فبعد هذا المشهد المهيب، والمنظر المحزن والمخيف الذي لم نر مثله إلا في الحروب العالمية، لم تعترف الشركة الأمريكية، وحتى كتابة هذه السطور بمسئوليتها لوقوع هذه الكارثة، فكل ما قامت به هو دفع مبلغ زهيد ومُهين يؤكد الاستهانة بأرواح البشر ومعاناتهم، وقدره 470 مليون دولار للحكومة الهندية لسد أفواه الفقراء، ومنعهم من رفع أية قضايا جنائية ضدهم. ولكي تتأكدوا الآن الفرق والتمييز المتعمد والفاضح بين بني البشر على أساس الحالة الاقتصادية، والوضع الاجتماعي، والبلد الذي يعيش فيه هو أن حصة كل هندي فقد عزيزاً له، ابناً كان، أم زوجاً، أم زوجة من هذا المبلغ الإجمالي هو 1600 دولار فقط، أي نحو 600 دينار بحريني لا غير، وكل مصاب منهم استلم 500 دولار، أي نحو 190 ديناراً فقط.

فمن الواضح إذن أن دم الإنسان الغربي الغني الذي ينتمي إلى دولة صناعية متقدمة يساوى أكثر آلاف الأضعاف من دم الإنسان الفقير من دولة نامية، والدليل هو أنه في عام 2011 أمرت محكمة أمريكية شركة يونيون كاربيد بدفع مبلغ وقدره 18 مليون دولار لمواطن أمريكي واحد فقط سقط ضحية الإصابة بمرض الأسبستوسس أو السرطان الذي سببه التعرض للأسبستوس، وفي حالةٍ أخرى أمرت محكمة أمريكية في عام 2006 في ولاية فلوريدا إحدى شركات التبغ بتعويض مواطن أمريكي واحد فقط أصيب بسرطان الرئة مبلغ وقدره 41 مليون دولار!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق