الثلاثاء، 12 مايو 2015

شوارعٌ في أعماقِ البحر!


امتلأ قلبي حزناً وألماً، وشعرتُ بالحسرة والأسف الشديدين للفيلم الوثائقي الذي شاهدته مؤخراً عن الوضع المأساوي للبيئة البحرية البحرينية، وما آلتْ إليها هذه البيئة المنتجة والمعطاءة للأجيال السابقة، وبخاصة الحالة الكارثية التي وصل إليه قاع البحر والحياة الفطرية من النباتات والأعشاب والحيوانات التي تعيش في الأعماق وتختبئ في تربتها، وستظل بظلها، وتحتمي بها هي وصغارها من الكائنات الكبيرة المفترسة.

 

فقد رأيتُ مناظر لم أصدقها، ولولا أنني قد علِمتُ مسبقاً أني أشاهد فيلماً عن البيئة البحرية، لكذبت عيني، ولظننتُ أنها لقطات حية لما هو فوق سطح البحر وفي البيئات البرية بالتحديد، حيث شاهدتُ شوارع ترابية لمسافاتٍ طويلة في قاع البحر كالشوارع الموجودة في البر، وكأن هناك سيارات ذا دفعٍ رباعي كانت تسير على تلك الشوارع فتَركتْ آثارها واضحة ومشهودة للجميع، وبصماتها محفورة بعمق في تلك المناطق.

 

فهذه الشوارع البحرية القاعية تكونت بسبب الآلاف من شباك الجر القاعية التي تسحبها السفن في مواسم الصيد منذ عدة سنوات، وبالتحديد صيد الربيان والأسماك القاعية، حيث عملت شباك الجر هذه كجرافات الدمار البحري الشامل، أو "البولدورزات البحرية" التي لا تُبقي ولا تذر، فتزيل كل شيء يقف أمامها، الأخضر واليابس، وتدمر كل صغيرٍ وكبيرٍ في طريقها، فهي تلتهم وتأكل كما يأكل النار الحطب، ومازالت حتى يومنا هذا تواصل أعمالها التخريبية والتدميرية بالرغم من الحظر المفروض عليها، دون أن يتمكن أحد من إيقافها!

 

فشباك الصيد هذه، وشباكٌ أخرى ممنوعة هي من الأسباب التي تُهدد استدامة عطاء الثروة البحرية لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، وهي من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى التدهور الكمي والنوعي في الكائنات البحرية من أسماك وروبيان وجعلت أسعارها تفوق بدرجة ملحوظة لجميع المواطنين أسعار المصادر الأخرى للغذاء والبروتين الذي يحتاج إليه الإنسان في وجباته اليومية.

 

كما أن هناك مصادر أخرى هامة أثرت على هذه الثروة السمكية الفطرية الغالية، منها عمليات الحفر والدفن. أما بالنسبة لأعمال الحفر فهي تعني حفر مناطق بحرية محددة لاستخراج الرمل منها، ثم نقلها إلى المناطق المراد دفنها، فهذه العملية التي تُستخدم فيها آليات الحفر الحادة العملاقة والضخمة تدمر كلياً البيئة القاعية، وتقضي تماماً على كل كائنٍ حي يعيش في منطقة الحفر، أو المناطق المجاورة لها، ومن جانبٍ آخر هناك الشق الثاني من العملية، وهو نقل الرمال لمسافات طويلة عبر الأنابيب ودفن المناطق البحرية الساحلية أو غير الساحلية، وهذه تعني أيضاً التدمير الشامل للمنطقة المدفونة، ودفن وقتل كل الكائنات الحية الموجودة عليها دون رجعة، وتحويلها إلى مقبرة جماعية لثروة فطرية حية.

 

كذلك هناك التلوث الناجم عن صرف مياه المجاري المعالجة جزئياً، أو غير المعالجة في بعض الأحيان، إضافة إلى مياه الصرف الصناعي والزراعي والمياه الحارة والمالحة التي تنجم عن عمليات التبريد في محطات تحلية المياه، فكل هذه المياه الآسنة تحمل في بطنها خليطاً معقداً من الملوثات السامة والخطرة التي تؤثر على البيئات البحرية والكائنات الحية النباتية والحيوانية البسيطة والدقيقة التي تعيش في تلك المناطق وتمثل الحلقة الأولى والأساسية للسلسلة الغذائية البحرية. وفي المقابل أيضاً هناك القمامة والمخلفات الصلبة التي تتراكم في السواحل بجميع أنواعها وأحجامها، ومنها ما وصل إلى قاع البحر وجثم هناك في مثواه الأخير.

 

فكل هذه المصادر والأسباب هي التي أوصلتْ البيئة البحرية والموارد البحرية الحية إلى هذا الوضع الكارثي ودمرت هذا المورد الغذائي والاقتصادي، فهي التي جعلت سعر الكيلوجرام من سمك الهامور يرتفع من "روبيات" إلى أكثر من سبعة دنانير!

   

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق