الأحد، 19 يونيو 2016

رؤية الهِلال والتلوث الضوئي


قبيل وبعد بزوغ وولادة هلال رمضان من كل عام ومنذ عشرات السنين، يحتدم الجدال ويطول النقاش في المجالس وبين الناس حول رصد ورؤية هلال شهر رمضان، وما إذا كانت الرؤية صحيحة وصيامنا سليماً، ثم تنطوي صفحة النقاش عند ذلك اليوم، وينسى الناس خبر رؤية الهلال وطلوع الهلال في كل شهر من الأشهر القمرية حتى يحل علينا شهر رمضان مرة ثانية فيتجدد هذا النقاش العقيم غير المفيد مرة أخرى، وهكذا نرى هذا المشهد في كل سنة.

 

والحديث عن رؤية الهلال ينقلنا إلى التطرق إلى قضايا بيئية كبيرة بدأت تتفاقم مع الوقت، وتنكشف تداعياتها السلبية الضارة يوماً بعد يوم، وأصبحت لها بصمات واضحة تنعكس على صفاء السماء من فوقنا، ونقاء الأجواء العلوية، وتؤثر مباشرة على وضوح الرؤية، سواء لشروق القمر ومشاهدة الهلال، أو التمتع والابتهاج برؤية الملايين من الأجرام السماوية بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها والتي تزين سماءنا، وتجعلها كالمصابيح المضيئة المنيرة التي تُسعد النفس، وتسر القلب، وتملأ الروح بهجة وسروراً عند مراقبتها ومتابعة سيرها وحركتها في السماء.

 

ومن هذه القضايا البيئية التلوث الكيميائي المتمثل في ارتفاع تركيز الملوثات والمواد الكيميائية في الهواء الجوي، مثل الغبار والجسيمات الدقيقة، وأكاسيد النيتروجين والكبريت، والملوثات الهيدروكربونية والتي تتفاعل مع بعض لتكون ملوثات أشد وطأة وخطورة على الإنسان وبيئته، وتظهر على شكل سحبٍ صفراء بنية اللون يُطلق عليها "الضباب الضوئي الكيميائي"، فتُعكر صفاء السماء، وتُكدر نقاوتها، وتحجب رؤية أي جسمٍ في أعالي السماء، بل وتبدوا في بعض الأوقات للعين المجردة والناظر إليها من الأرض على هيئة هلال أو ريشة وخيط رفيع ودقيق من السحب الملوثة والقاتلة، ولذلك يقع خلط وشك في الرؤية بين الهلال الحقيقي والهلال المزيف.

 

كذلك انكشفت الآن ظاهرة بيئية أخرى، وتُعد حالياً من المظاهر الجديدة نسبياً وانعكاساتها أخذت في التزايد مع الوقت، وبخاصةٍ مع توسع وارتفاع نسبة الإضاءة ودرجة الإنارة في المدن والأرياف، وهذه الظاهرة يُطلق عليها بالتلوث الضوئي الناجم عن انتشار أنوار المدن الساطعة والشديدة من المباني والعمارات الشاهقة وناطحات السحاب، إضافة إلى التوهجات الشديدة الصادرة عن مصابيح الشوارع والطرقات والمنازل والبيوت والمصانع. 

 

وهذه الظاهرة البيئية لا تُولِّد غمامة ضوئية وضباباً من الأنوار العالية التي تحجُب عيون الناس عن رؤية الهلال فحسب، وإنما تحرم الإنسان من الاستمتاع بمشاهدة ومراقبة ودراسة ظواهر كونية وفلكية أخرى، حيث أكدت على واقعية هذه الظاهرة المستحدثة في كل مدن العالم الدراسة المنشورة في العاشر من يونيو من العام الجاري في مجلة تطورات العلم(journal Science Advances). وهذه الدراسة الشاملة التي غطت الكرة الأرضية برمتها كانت عبارة عن "أطلس دولي" تم إعداده باستخدام الأقمار الصناعية وبالتحديد القمر الصناعي(Suomi NPP satellite)، ويبين هذا الأطلس تأثيرات ودرجة التلوث الضوئي التي تنعكس على مشاهدة الأجرام السماوية والنجوم والكواكب في كل أنحاء العالم، حيث أكد على أن 80% من سكان العالم لا يمكنهم، على سبيل المثال مشاهدة ورؤية نجوم درب اللبانة أو درب التبانة(Milky Way) حتى في أكثر الليالي صفاءً ووضوحاً، بل وأشار الأطلس على أنك في الكثير من المدن لا ترى السماء الحقيقة التي خلقها الله سبحانه وتعالى في صورتها الفطرية الطبيعية، وإنما تشاهد سماءً مزيفاً تُغطيها غشاوة من الأنوار الساطعة، وسحب من الأضواء اللامعة، وضباب ضوئي متوهج يفسد رؤية السماء وجمالها التي تزينها الكواكب والأجسام المضيئة.

 

وقد تسابق العلماء والباحثون مؤخراً لسبر غور هذا التحدي الجديد، والتعرف على هذه الظاهرة عن كَثَبْ، وإجراء الأبحاث الميدانية والمخبرية لتحديد تأثيراتها الضارة ليس على رؤية الظواهر الفلكية المختلفة فحسب، وإنما على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وبالتحديد الكائنات الحية التي تَنْشط أثناء الليل وعند حلول الظلام، إضافة إلى مردوداتها السلبية على الإنسان، وبخاصة الصحة النفسية، حيث إن على الإنسان والمهتمين بالقضية الآن السفر مئات الكيلومترات للتمتع برؤية السماء النقية الصافية الحقيقية التي أصبحت عملة نادرة يصعب الحصول عليها.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق