الخميس، 28 يوليو 2016

رحلة المخلفات البلاستيكية حول العالم


هل فكرتَ يوماً ماذا سيحدث لأية قطعةٍ مصنوعةٍ من البلاستيك، أو أي نوعٍ من المخلفات البلاستيكية التي ترميها في الأوساط البيئية المختلفة، سواء أكان هذا الوسط البيئي هو البحر، أو البر، أو الهواء الجوي؟

 

فهل ستبقى هذه المخلفات في مواقعها التي تخلصتَ منها، أم أنها ستَسِير في رحلةٍ طويلة ماراثونية وشاقة لا يعرف مصيرها إلا رب العالمين، ولا يدري أحد في أي أرضٍ ستموت ويكون مثواها الأخير؟

 

في الواقع فإن هذه المخلفات البلاستيكية حيَّرت العلماء، ودوخت الباحثين، واحتارت أمامها عقول البشر جمعاء، فهي في طبيعتها مستقرة وثابتة وغير قابلةٍ للتحلل الحيوي عندما نُلقيها ونتخلص منها في الأوساط البيئية، أي أنها تبقى على حالها وعلى ما هي عليها دون أن يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل في هويتها، فهي تبقى في بيئتنا خالدة مخلدة كمخلفات بلاستيكية صلبة تطوف أرجاء العالم من بلدٍ إلى آخر، وتحوم حولها في البر كانت، أو في البحر، أو عالقة في الهواء وعلى أفرع الأشجار وأغصانها وأوراقها.

 

وقد اكتشف الباحثون من معهد جرانثام(Grantham Institute) في جامعة إمبريل كولج(Imperial College) المرموقة في لندن أن المخلفات البلاستيكية التي يُلقيها المواطن البريطاني في البيئة البحرية المحيطة ببريطانيا، تنتقل مع الوقت، فتَرْكب مجاناً فوق سطح التيارات البحرية وتَقَفُ عليها، كما نرَكب نحن ونقف على ظهر الأحزمة السيَّارة المتنقلة في المطارات وغيرها لنتحرك وننتقل من موقعٍ إلى آخر، فهذه المخلفات البلاستيكية التي دخلت إلى البيئة البحرية لا تبقى في مكانها ولا تثْبت في موقعها، وإنما أكد هؤلاء العلماء أنها دائمة الحركة والتنقل وفي رحلة مستمرة، حيث إنها في نهاية المطاف، وبعد قرابة العامين تصل إلى مقبرتها ومثواها الأخير في شمال الكرة الأرضية، وبالتحديد في منطقة القطب الشمالي عند بحر بيرنتس(Barents Sea) شمال النرويج، ثم إلى محيط القطب الشمالي حيث تدخل في هذا السجن العظيم وتدور حول نفسها عقوداً طويلة من الزمن، أو أنها تتجمد فتصبح جزءاً لا يتجزأ من الجبال الثلجية. فهناك الآن ملايين الأطنان من المخلفات البلاستيكية التي وصلت إلى هذه البقعة النائية والبعيدة عن البشر وأنشطتهم التنموية فتجمدت وتصلبت مع الكتل الثلجية.

وقد قام هؤلاء الباحثون بنشر وعرض هذا الاكتشاف البيئي المثير في المعرض العلمي الصيفي للجمعية الملكية البريطانية الذي عقد خلال الأسبوع من 5 إلى 10 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: “البلاستيك في محيطاتنا". كما صمَّم العلماء وطوروا برنامجاً للحساب الآلي اسمه "مسيرة البلاستيك"(Plastic Adrift)،ويهدف إلى مراقبة ومتابعة خطِ سير أي نوعٍ من المخلفات البلاستيكية التي يلقيها الإنسان في البحر في أي مكانٍ في العالم، ويتعرف على كيفية تحركها من منطقة بحريةٍ إلى أخرى، فيُحَدد رحلتها منذ ولوجها في البيئة البحرية إلى آخر مستقرٍ لها،حتى تبلغ مثواها الأخير.

 

واستناداً إلى نتائج هذه الدراسة والأبحاث الأخرى، أستطيع أن أُحدد مواقع المقابر الجماعية للمخلفات البلاستيكية في الكرة الأرضية بعد أن نتخلص نحن منها، فالمقبرة الأولى تكون في البيئة البحرية، فإما أنها تطفو فوق سطح البحر وتمكث عليها إلى ما شاء الله، كما هو الحال الآن بالنسبة للمقبرة العظيمة التي تحتوي في بطنها ملايين الأطنان من المخلفات بشكلٍ عام، وبخاصة المخلفات البلاستيكية التي تدور حول نفسها في سجنٍ كبير لا يمكنها الخروج منه، وتُعْرف هذه المقبرة ببقعة المخلفات العظيمة في وسط المحيط الهادئ(great Pacific garbage patch)، وإما أن تتكسر وتتفتت إلى قطعٍ أصغر فتنزل في عمود الماء، وتجثم مع الوقت في التربة القاعية تحت أعماق البحار والمحيطات، وتدخل رويداً رويداً في أجسام الحيتان، والسلاحف، والأسماك، والطيور المائية، فتتراكم مع الزمن في بطونها وجهازها الهضمي، وفي نهاية المطاف تصل إلينا هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة والصغيرة الحجم دون أن نعلم عن وجودها واستهلاكنا لها، فتُصيبنا بالأمراض والعلل المزمنة التي لا نعلم كيف نزلت علينا.

 

والمقبرة الجماعية الثانية للمخلفات موجودة حالياً في شمال الكرة الأرضية وبالتحديد في القطب الشمالي، حيث تنتقل المخلفات يومياً عبر الحدود الجغرافية المصطنعة من شتى بقاع الأرض، وبخاصة من البحار الأوروبية، حتى تبلغ في نهاية رحلتها المحيطات الثلجية والكتل المتجمدة فتتغلغل بداخلها وتمكث في بطنها إلى أجلٍ غير مُسمى، وربما عندما تذوب هذه الثلوج بسبب التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، فسَنَرى بحيراتٍ من البلاستيك، وأنهارٍ جارية تمتلئ فيها المخلفات البلاستيكية.

 

ولذلك هل سيأتي علينا اليوم الذي سيتحول فيه كوكبنا إلى مقبرةٍ جماعية واحدة عظيمة للمخلفات البلاستيكية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق