الأحد، 31 يوليو 2016

تَجْرُبتي مع هواء لندن


كلما تباعدت أكوام السحب الثقيلة عن بعضها البعض واتسعت المسافات بينها، وكلما انكشف الغمام وانقشع قليلاً في سماء لندن، تمكنت أشعة الشمس الضعيفة والفاترة، وأضواؤها الخافتة أن تجد لنفسها فتحة صغيرة تلج منها فتُلقي بنورها على أرض لندن، وعندها يخرج اللندنيون سِراعاً، زرافاتٍ ووحدانا، ويَنطلقون متجهين إلى السواحل والمسطحات المائية من الأنهار والبحيرات وإلى المتنزهات والحدائق العامة لاغتنام هذه الفرصة النادرة قبل أن تذهب عنهم وتنقشع، والتمتع بخروج الشمس من تحت الغمام الكثيف، والاستلقاء تحت حرارتها الجميلة، والتعرض لأشعتها الدافئة والمفيدة لجلد الإنسان واستدامة حياته الصحية والجسدية.

وكُنت في الأيام الماضية من المحظوظين الذين أُتيحت لهم هذه الفرصة الذهبية أثناء زيارتي إلى لندن، فالجو كان بديعاً وفريداً، غير باردٍ ولا حار، وغير ممطر، فالشمس كانت تسطع علينا باستحياء، وتشرق بين الحين والآخر، ولكن ما لا يُدركه الكثير من الناس هو الانعكاسات البيئية الضارة التي تنجم عن هذه الساعات المشمسة القليلة في لندن وغيرها من المدن.

 

فمنابع التلوث، وبخاصة في لندن كثيرة ومتعددة، وأشدها وطئاً وضرراً على الهواء الجوي وصحة الإنسان هي السيارات التي تمتلئ بها شوارع لندن الضيقة، وتتشبع بها طرقاتها، حتى إنك في الشوارع التجارية أثناء الصباح وعند الانتهاء من العمل لا ترى سوى اللون الأحمر الفريد الذي يُزين هذه الشوارع من الحافلات الحمراء ذي الطابق الواحد أو الطابقين، وتحوم حولها عن يمينها وشمالها سيارات الأجرة المميزة والفريدة من نوعها في ألوانها وأشكالها، وكأنها طوابير النمل الطويلة التي تسير فوق الأشجار، وهذه الأعداد المهولة من السيارات والتي تعمل معظمها بالديزل تمشي ببطءٍ شديد، وبخطواتٍ ثابتة قصيرة جنباً إلى جنب، فتنفث سمومها القاتلة في الهواء الجوي، ومن أخطر هذه السموم على أمن البيئة والإنسان الدخان أو الجسيمات الدقيقة، وأكاسيد النيتروجين، والمركبات الهيدروكربونية المتطايرة، وهذه الملوثات لا تعمل لوحدها عندما تنطلق إلى الهواء وبشكلٍ منفصل ومستقل، ولكنها عند وجود أشعة الشمس تحدث سلسلة معقدة وطويلة من التفاعلات الكيميائية الضوئية وتنتج عنها ملوثات أشد تدميراً لسلامة الإنسان وبيئته وأكثر فتكاً بهما، أي أن ظهور أشعة الشمس على اللندنيين يكون في بعض الأوقات وبالاً ووبائاً، وشراً مُستطيراً مُهلكاً.

فأشعة الشمس تعمل كعامل مساعد على تكوين هذه الملوثات المهددة للجميع، والتي تنكشف مع الوقت في الأفق ويمكن لكل إنسان مشاهدتها بالعين المجردة على هيئة سحبٍ بُنيةٍ صفراء اللون، ويُطلق عليها بالضباب الضوئي الكيميائي، وجدير بالذكر أن هذه المشكلة تتفاقم ويزيد تأثيرها عند انكشاف ظاهرة مناخية تُعرف بالانقلاب الحراري التي تعمل على حبس الملوثات التي تنبعث إلى الهواء الجوي فتؤدي إلى تراكمها مع الوقت، وتمنع انتشارها وتخفيف تركيزها في السماء العالية من فوقنا.

 

وما يحدث في لندن ليس فريداً من نوعه، وليس حدثاً خاصاً بلندن وحدها، فهذه ظاهرة تعاني منها بدون استثناء كل المدن الحضرية التي تقاسي من تضخم أعداد السيارات وتزاحمها في شوارع ضيقة وصغيرة، ونحن في البحرين لسنا ببعيدين عن هذه المشكلة البيئية الصحية القاتلة، فكل مقوماتها موجودة وتزداد سوءاً وضرراً  كل سنة.

 

فالعامل الأول والرئيس هو الزيادة المطردة في أعداد السيارات التي تُسبب لنا يومياً إزعاجاً شديداً وفي كل الأوقات من الليل أو النهار، وتشكل لنا أزمة مرورية خانقة ومشكلة أخلاقية خطيرة، إضافة إلى مردوداتها البيئية والصحية التي لا تخفى على أحد، والعامل الثاني فهذه الأعداد الكبيرة والمتعاظمة من السيارات تسير كلها في شوارع ضيقة نسبياً وفي مساحة جغرافية صغيرة لا تزيد عن 200 كيلومتر مربع، وتتركز في الجزء الشمالي من جزيرة البحرين، وأما العامل الثالث فهو وجود الظاهرة المناخية الطبيعية التي تحدثت عنها، وهي الانقلاب الحراري التي تزيد من الطين بَلَّه، وتجعله أكثر سوءاً وتعقيداً.

  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق