الجمعة، 19 أغسطس 2016

بَلدْ الضباب



من يقرأ عنوان هذا المقال فلا شك بأنه سيفكر مباشرة بلندن المعروفة تقليدياً بأنها مدينة الضباب، حيث لا تطلع فيها الشمس إلا سويعات من كل يوم وفي أشهر الصيف فقط، ولكنني هنا أتحدث عن بلد الضباب الموجود بين ظهرانينا، وبالقرب منا، ولا يبعد عنا سوى ساعتين من رُكوبك للطائرة، وبدون أن تتحمل بعد المسافة ومشقة السفر.

هذه المدينة الساحرة الجميلة هي صلالة في سلطنة عمان والتي تتميز بمقومات سياحية فريدة من نوعها بين دول الخليج المعروفة في مجملها في أشهر الصيف الطويلة بالهواء الحار والقيظ الشديد، والرطوبة العالية، والبيئات الصحراوية الممتدة آلاف الكيلومترات ودرجة حرارة مياه البحر المرتفعة، ولذلك يشد معظم الناس رحالهم متجهين إلى أوروبا بحثاً عن الجو البارد والبيئات الخضراء.

فقد تمتعت مؤخراً في زيارة خاطفة وسريعة قُمت بها إلى صلالة فلم أر فيها الشمس مدة أربعة أيام ولم أحتاج إلى نظارةٍ شمسية تقي بصري وتحمي عيني من شدة ضوء الشمس وقوته، فالضباب والسحب الكثيفة الثقيلة كانت تحجب أشعة الشمس وتمنعها من الوصول إلينا وتُنزل من درجة حرارة الجو، وقد كانت هذه السحب العالية محملة بأمطارٍ خفيفة كالندى، فتنزل علينا برداً وسلاماً، فتُنعش نفوسنا أمناً، وقلوبنا راحة وطمأنينة، فيشرب بعد نزولها إلى الأرض الطير والكائنات البرية الفطرية، وتروي بها التربة بعد عطش، فتهتز لها الأرض الهامدة وتُنبت بعدها من كل زوجٍ بهيج، فترى المسطحات الخضراء البِكر العذراء بُعد امتداد البصر وكأنها بساط أخضر اللون، وهي متزينة بأنواعٍ مختلفة ومتنوعة من النباتات الفطرية البرية الموسمية والدائمة. وفي المقابل تشاهد أمامك الجبال الراسيات الشامخة الخضراء اللون الممتلئة بالأشجار الباسقات العالية والأعشاب القصيرة التي تحوم من حولها، وإذا ما نظرت إلى أعلى السماء فلا يمكنك مشاهدة قِمم الجبال هذه التي يُغطيها الغمام والضباب الأبيض الناصع البياض.

وهذه الجبال الخضراء تنزل من فوقها ومن أعلى قممها المياه العذب الفرات، فتَجري عبر مجاري هذه الجبال الخلابة وقنواتها إلى الأرض، فتسقط ماءً غير آسن على هيئة شلالات مهيبة تسمع أصواتها من بُعد، ثم تجري أنهاراً غدقاً على الأرض، وتُكونُ بركاً وبحيرات جذابة من هذا الماء الصافي الزلال.

وهذه الأمطار الخفيفة التي تنزل على هذه الأرض المباركة، وهذه الحرارة اللطيفة للجو، تُنبت غابات كثيفة من شتى أنواع الفواكه الطيبة واللذيذة وعلى رأسها أشجار جوز الهند الباسقات ولها طلع نضيد، وأشجار المانجو والرمان والليمون.

وعندما تعيش في هذه الأجواء العليلة بعض الوقت، وتقضي فترةٍ من الزمن مع هذه البيئات الخضراء المتزينة بتغاريد الطيور الغناء التي تكسر صمت الجبال والسهول، وتشم هواءً نقياً صحياً وعليلاً، فإنك حقاً ستشعر براحةٍ نفسية عجيبة لا مثيل لها، وتحس بطمأنينةٍ وأمانٍ وراحة البال، وستعيش حالة من الاسترخاء لا يمكن وصفها والتعبير عنها مهما كُنتُ بليغاً في الكتابة والوصف البياني.  

وفي الحقيقة ما يحتاج مني إلى الإشادة والثناء هو الحفاظ على هذا التراث الفطري الفريد من الحياة الفطرية الحية وغير الحية عبر السنين، وحماية كل مكوناتها وعناصرها كما خلقها الله سبحانه وتعالى من بيئاتٍ جبلية خضراء مزينة بالأشجار والأعشاب، وسهول شاسعة لم تفسدها أيدي البشر، وأنهارٍ وبحيراتٍ وعيون صافية ونقية، ثم نقل هذا التراث العجيب من جيلٍ إلى آخر، وتسليمه لهم دون تدميرٍ أو تشويه أو تغيير في نوعيتها وكميتها.

فهذه الظاهرة التي تتميز بها صلالة تُعد الآن من التحديات الخطيرة والصعبة التي تواجهها الدول عند القيام بالأعمال التنموية، سواء أكانت في قطاع السياحة، أو الصناعة، أو التجارة، أو عمارة الأرض بالمباني والمساكن، وقد فشلت الكثير من الدول أمام هذا التحدي الصعب والمعقد ولم تتمكن من مواجهته، وسقطت في فخ التنمية غير المستدامة، فدمرت الهواء الجوي وتشبع بالملوثات القاتلة والسامة، وقضت على البحر فأكلت جزءاً كبيراً من جسمه وذهبت معها الكائنات الفطرية التي تعيش عليها، وعبثت في العيون الطبيعية حتى انتهت وأصبحت جزءاً من التاريخ البيئي المعاصر فلا يمكن مشاهدتها إلا في أرشيف الكتب القديمة، فأخلت كلياً بالتوازن البيئي الهش الذي خلقه الله ولم يبق الآن من البيئة إلا اسمها ومن الكائنات الفطرية إلا رسمها.      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق