الاثنين، 29 يناير 2018

لماذا أوقف الصينيون دفن البحر!


خبر قرأتُه في 18 يناير من العام الجاري في صحيفة الشعب اليومية الصينية تحت عنوان: "الصين تفرض أشد الأنظمة صرامة حول عمليات دفن البحر"، وجاء في الخبر أن الصين ستعمل على إيقاف وإغلاق جميع عمليات دفن البحر غير المرخصة والعشوائية وهدم المباني والمرافق التي أُقيمت على هذه المناطق المدفونة. فعلى سبيل المثال، أوقفت الحكومة الصينية، ممثلة في جهاز إدارة المحيطات رخصة بناء جزيرة صناعية سياحية في البحر في مدينة وانينج بمقاطعة هينان، حيث تبلغ مساحة المنطقة المدفونة من البحر قرابة 150 هكتاراً، أي أقل من كيلومترين مربعين. وقد أكد المسؤول الصيني في إدارة المحيطات على هذه السياسة الجديدة والإجراءات الحاسمة والصارمة لعمليات دفن البحر، وقال بأن الشروط التي وضعناها الآن للموافقة على عمليات دفن البحر هي أن النشاط الذي يعتزم دفن البحر يجب أن يكون له مردودات إيجابية على الاقتصاد الوطني الصيني من جهة، وأن لا يكون له تأثير سلبي على حياة ومعاش الناس ومصدر رزقهم من جهة أخرى، كما أفاد المسؤول الصيني بمنع عمليات دفن البحر لأغراض تجارية سكنية، إضافة إلى إيقاف أي عملية دفان في بحر بوهاي كلياً.

 

فماذا حدث في الصين الآن حتى تشدد قبضتها الحديدية على الأنشطة التنموية التي تقام على أراضٍ مدفونة في البحر؟

ولماذا قررت الصين اليوم وبعد عقود من دفن البحر شرقاً وغرباً أن تضع أنظمة وقوانين مغلظة ومقيدة لأي مشروع يعتزم دفن سواحل البحر؟

 

إن ما حدث في الصين، حدث في البحرين ومازال مستمراً عندنا، فتجربة الصين لا تختلف عن تجربتنا. فالصين في العقود الماضية تَبَنتْ ما أُطلقُ عليه بسياسة النمو "المُعوقْ" الذي ينظر إلى الأنشطة التنموية بعينٍ واحدة فقط، وهي تحقيق النمو الاقتصادي البحت ورفع الناتج المحلي الإجمالي على حساب كل شيء آخر سواء أكانت البيئة وثرواتها الطبيعية من ماء وهواء وتربة، أو على حساب خيراتها الحية من ثروةٍ سمكية وحياة فطرية برية نباتية وحيوانية، كما كان النمو الصيني الأحادي الجانب على حساب الطبقات الفقيرة والبسيطة التي تقتات وتعيش على الثروات الموجودة في هذه المكونات البيئة الحية وغير الحية، وبخاصة البيئة البحرية. فكانت النتيجة الحتمية لهذا النمو، حسب التقارير الحكومية الرسمية نفسها، التدمير الشامل للبيئة والفساد المستفحل لعناصرها وثرواتها والتي انعكست مباشرة على صحة المواطن الصيني، فنشأت أكثر من 500 قرية سرطانية تزيد فيها معدلات الإصابة بالسرطان مقارنة بالقرى الأخرى، كما فسد الهواء الجوي في معظم المدن الكبرى بانكشاف السحب البنية الصفراء اللون، بحيث تحول الهواء إلى أداة هدم لسلامة الإنسان بدلاً من أن يكون صحة وأمن وعافية، ومياه البحر تشبعت بشتى أنواع الملوثات وامتلأت بالسموم المهددة لصحة الأسماك والإنسان معاً نتيجة للمخلفات السائلة الناجمة عن حفر ودفن البحر والقضاء كلياً على البيئة البحرية الساحلية، إضافة إلى مخلفات مياه المجاري الآسنة وإسالات المصانع الخطرة. هذا الوضع البيئي انعكس صحياً على الناس وكان له مردودات سياسية وأمنية هزت المجتمع الصيني، مما اضطر الحكومة الصينية المركزية ولأول مرة في تاريخها "إعلان الحرب على التلوث"، وسنَّت قوانين شديدة على كل من يلوثون البيئة ويعتدون على حرماتها في البر والبحر والجو.

 

وقد آن الأوان علينا نحن أيضاً أن نُعلن الحرب على التلوث ونضع التشريعات الكفيلة بحماية كافة مواردنا الفطرية الطبيعية، وعلى رأسها البحر.

الأحد، 28 يناير 2018

قصة فَتَياتْ الرادْيوم


 


حوادث التاريخ القريبة والبعيدة، المعاصرة والغابرة ليست للتسلية والترفيه وقضاء وقتٍ ممتع في قراءتها والاطلاع عليها، وليست روايات وقصص مشوقة أكل عليها الدهر وشرب ولا علاقة لها بحاضرنا وواقعنا الحالي، وإنما هي دروس حية واقعية تتكرر في أي زمانٍ أو مكان فالتاريخ يُعيد نفسه، ولذلك من الضروري والمفيد لنا اليوم أن نقف عندها طويلاً، ونمكث أمامها بعمق وتمعن لدراستها والتفكر فيها من أجل التعلم منها ومن زلاتها وهفواتها، والاستفادة من دروسها وتجاربها، واستخلاص العبر والعظات منها، لعلها تكون مرآة نرى فيها حياتنا اليوم فنرسم بها غدنا ومستقبلنا، ونكون بذلك قد طبقناً قوله تعالي: "لقد كان في قصَصهم عبرةٌ لأولي الألباب".


 


فقصتُنا اليوم التي أريد أن أقف أمامها تبدأ مشاهدها أثناء الحرب العالمية الأولى عندما قامت شركة في مدينة أورنج بولاية نيو جيرسي عام 1916 بالإعلان عن وجود شواغر لوظائف مغرية للفتيات وبرواتب عالية جداً مقارنة بالوظائف الأخرى وبسُلم الرواتب في تلك الفترة، مما أدى إلى تدافع الفتيات والجري نحو هذه الوظيفة المثيرة دون التفكير في تفاصيلها وملابستها وتأثيراتها على أمنهم الصحي، فقامت هذه الشركة بتوظيف 70 فتاة في بداية تشغيل المصنع ثم مع الوقت تم توظيف أكثر من 4000 فتاة مع التوسعة وفتح مصنعين آخرين.


 


فقد كان هذا المصنع هو الأول من نوعه في العالم أجمع، وكان يتباهى ويتفاخر في صناعة مُنتجٍ سحري وغريب وفريد من نوعه على المستوى الدولي، وعظيم الفائدة والنفع للناس بشكلٍ يومي، حيث قدَّم للعالم ساعات اليد، أو الساعات المنْبهة، أو ساعات الحائط التي تتميز بصفةٍ لا توجد مثلها في الأسواق، وهي أنها تُضيء أثناء الظلام عندما يحين الليل، وتتوهج تلقائياً باستمرار عندما تحين ساعات السواد المقفرة، وكأنها مصابيح لامعة تنير الطريق أو المنزل أو المكتب، فلا تحتاج إلى بطارية للشحن بعد فترةٍ من الزمن، ولا إلى أي مصدرٍ للكهرباء.


 


وفعلاً بدأ المصنع في الإنتاج وأبهر العالم واندهش الجميع بهذه البضاعة العملية التي لا مثيل لها في الكون، ولكن في الوقت نفسه غُرست البذور الخبيثة لكارثة صحية مزمنة أيضاً لا مثيل لها في الكون، فنزلت هذه الصاعقة العصيبة على آلاف الفتيات العاملات في المصنع. فهؤلاء الفتيات كن يتعرضن كل ساعة يومياً لعنصرٍ شديد الإشعاع هو الراديوم الموجود طبيعياً في باطن الأرض، دون أن يعلموا بخطورة هذا العنصر وتهديداته طويلة الأمد على صحتهم، فقد كان هذا العنصر الطبيعي المشع يدخل في تركيبة الدهان المستخدم في صباغة وتغطية أوجه وعقارب وأرقام الساعات المضيئة في الظلام، والعاملات كن يستخدمن الفم والشفتين للإمساك بالفرشاة الدقيقة والصغيرة المستعلمة في الصباغة، مما أدى إلى زحف هذا العنصر القاتل إلى أجسامهن عن طريق الأنف، أو الفم، أو الجلد، كما أن هؤلاء العاملات كانت ملابسهن تتغطى بهذا الدهان السحري المشع، وعند خروجهن من العمل أثناء الليل كانت أجسامهن تنير وتضيء في الظلام، حتى أن الناس أطلقوا عليهن بفتيات الأشباح أو فتيات الراديوم (The Radium Girls). وبعد سنوات من العمل في هذه المصانع انكشفت عليهن أعراض مرضية غريبة تتمثل في الإرهاق والتعب وآلام في الأسنان وتفتت عظام الفك السفلي وقابليته الشديدة للكسر، بحيث إنه كان يسقط تلقائياً وبنفسه، وأُطلق على هذه الظاهرة بـ "فَكْ الراديوم"، مما أدى في عام 1927 إلى رفع هؤلاء الفتيات لدعاوى قضائية ضد هذه المصانع القاتلة للبشر، حسب التحقيق المنشور في الـ سي إن إن في 19 ديسمبر 2017.


 


والطامة الكبرى التي انعكست على المجتمع برمته هي أن هذا العنصر المشع الأعجوبة الذي تم اكتشافه عام 1898 تم استخدامه في منتجات كثيرة يستعملها الإنسان يومياً، منها منتجات الزينة والتجميل، ومعجون الأسنان، وبعض المشروبات، وبالتحديد مشروبات الصحة والعافية وعلاج الأمراض، وأُطلق عليها المياه الروحية، أو المياه المشعة، الراديثور(Radithor)، وهي عبارة عن مياه مقطرة تحتوي على الراديوم، حيث ادعت الشركات المصنعة بأنها مياه الطاقة والصحة والجمال، لأن المواد المشعة تنبعث منها الطاقة ولذلك يمكن استخدامها للحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى طاقة إضافية كحالات التعب والإرهاق والعجز الجسدي، وأثناء ممارسة الرياضة العضلية!


 


فهذه القصة التي حكيتها لكم تتكرر الآن في كل مكان، ونراها أمامنا بصورةٍ أو بأخرى وتحت مشاهد مختلفة. فأحد المشاهد على سبيل المثال عندما فتح مصنع ألمنيوم البحرين أبوابه في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، حيث شجع الكثير من الشباب للعمل في المصنع برواتب مغرية جداً وعالية مقارنة بالشركات الأخرى في ذلك الوقت، ولكن ظروف العمل البيئية والصحية كانت صعبة جداً وسيئة للغاية، فبيئة المصنع كانت شديدة التلوث بحيث إن الرؤية كانت شبه منعدمة، وكان العمال يتعرضون كل ساعة لملوثات خطرة وللحرارة العالية والضوضاء المرتفعة، وهذا التلوث لم يؤثر على العمال وجودة الهواء في بيئة المصنع فحسب وإنما خرجت أضراره إلى الناس في خارج المصنع، ولحسن الحظ أن المصنع انتبه لخطورة هذه الأوضاع المَرَضية في الداخل والخارج، فأجرى تعديلات وتحسينات جذرية أدت إلى تطورٍ مشهود لجودة الهواء داخل المصنع.


 


والمشهد الثاني هو ادعاء الشركات كذباً وتضليلاً بأن منتجاتهم سليمة وصحية ولا تضر بالإنسان، والعمل بصورة عاجلة دون التأكد من سلامتها بتسويق هذه المنتجات بأنها سحرية ونافعة لأغراض متعددة، مثل شركات التبغ التي ادعت في العقود الماضية بأن التدخين لا يضر بالإنسان وله علاقة برجولة الإنسان وقوته، أو شركة جونسون و جونسون التي صرَّحت بأن مسحوق "تَلْكْ" الأبيض المعروف عالمياً الذي استخدمه الناس جميعاً أطفالاً وشباباً وشيوخاً لا يسبب أية مشكلات صحية، وغيرهما الكثير مما لا يسع المجال لذكرها.


 


ولذلك أنصح الجميع إلى الرجوع إلى الأحداث التاريخية لدراستها واستخلاص العبر منها وتجنب الوقوع في الأخطاء والزلات التي سقط فيها مَنْ قَبْلنا.

الأربعاء، 24 يناير 2018

اتهامات متبادلة بين أمريكا والصين


الاتهامات المتبادلة والمناوشات الكلامية السرية والعلنية تكاد لا تنتهي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فهي قديمة ومتجددة، وتظهر على السطح بين الحين والآخر. فهذه الأيام نشهد خلافات بين الدولتين ولكنها خلافات واتهامات خفية، ولم تنكشف كثيراً إلا لمن يهتم بها ويتابعها ويراقب تطوراتها، فهي ليست تقليدية معروفة كما عهدناها من قبل مثل الخلاف حول تهريب وتصدير النفط من الصين إلى كوريا الشمالية، أو الخلاف حول الفرق الشاسع في الميزان التجاري بين الدولتين، أو التهم المتبادلة الموجه حول التغير المناخي ودور كل منهما في رفع درجة حرارة كوكبنا وعدم الالتزام بالمعاهدات الدولية المعنية بهذا الشأن، أو مؤخراً وبالتحديد في التاسع من يناير من العام الجاري التحذيرات شديدة اللهجة التي أطلقتها وزارة الخارجية الأمريكية ضد الصين حول وضع الجيوش والسفن العسكرية في جزر ومياه بحر جنوب الصين.

 

 

فهذه المرة كانت التراشقات والاتهامات حول قضية لا يتوقعها الكثير من المهتمين والمراقبين لتطورات الأحداث بين الدولتين، فالتهمة التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية للصين هي إغراق الصين لأسواق أمريكا بالمخدرات المنتجة في مصانع الصين، والتي تُصدر أو تهرب إلى أمريكا بشتى الطرق الشرعية وغير الشرعية، وبالتحديد مركب كيميائي خطير جداً يعرف بالـ "فينتانيل" (fentanyl)، وهو مخدر رخيص الثمن يباع كبديل للهيروين وفاعليته وتأثيره أكثر من الأفيون بآلاف المرات.

 

وهذه التُهم تحولت إلى أحد المواضيع والقضايا الرئيسة التي وُضعت في جدول أعمال الاجتماع الذي عقده الرئيس ترمب مع الرئيس الصيني أثناء زيارة ترمب للصين في نوفمبر من العام المنصرم، وكانت تحت بند "انتشار المخدر فينتانيل الرخيص في الولايات المتحدة الأمريكية والمصنوع في الصين"، حسب ما ورد في تقرير صحيفة النيويورك تايمس في الثامن من نوفمبر عام 2017. وفي المقابل لم تقف الصين صامتة تجاه هذه الاتهامات، فقد أكدت في تصريحات لها على لسان الرئيس التنفيذي لجهاز التحكم في المخدرات التابع لوزارة الأمن العام الصينية والذي رمى الكرة في ملعب الولايات المتحدة الأمريكية وقال لا يوجد أي دليل ملموس بأن أحجام كبيرة من المخدر تأتي من الصين، وأضاف بأن أمريكا لا تتخذ إجراءات صارمة لخفض الطلب على هذه المخدرات، فكما يعلم الجميع بأن الطلب المتزايد على هذا النوع من الحبوب المخدرة، أو أية سلعة مهما كانت، ضارة أم نافعة، يسيل لعاب الجميع من المهربين وأصحاب الضمائر الميتة لتهريب وبيع هذه السلعة، كما نصح المسؤول الصيني أمريكا إلى تعزيز وتعميق الوعي الشعبي من خلال المناهج الدراسة والحملات الشعبية في وسائل الإعلام حول المخدرات وتأثيراتها المدمرة على الفرد والمجتمع برمته.

 

فهذه التهم بين أكبر بلاد العالم إن دلت على شيء فإنما تدل على عمق قضية المخدرات في الولايات المتحدة الأمريكية واستفحالها في جسد المجتمع الأمريكي الذي بدأ يتآكل من الداخل فينخر في أعضاء هذا الجسد العليل. وقد بلغت أزمة المخدرات مستويات تاريخية غير مسبوقة، وتحولت إلى وباء عام، مما ألزمت الرئيس الأمريكي ترمب في أكتوبر عام 2017 إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية القومية حول داء الأفيون. كما أكد ترمب في اللقاء الصحفي الذي عقده في منتجع كامب ديفيد في السادس من يناير من العام الجاري على أن وباء المخدرات سيكون من أولوياته في جدول أعمال عام 2018.

 

فالإحصاءات الأخيرة المنشورة من وزارة الخدمات الصحية والبشرية، ومن المركز الأمريكي حول التحكم ومنع المرض، إضافة إلى تقارير وإحصاءات المركز القومي للإحصاءات الصحية، كلها تؤكد وتثبت أن الشعب مخدر ويعاني من الإدمان، وأُقدم لكم نموذجاً مختصراً لهذه الإحصاءات.

أولاً: الجرعة الزائدة من المخدرات هي السبب الرئيس لحالات الموت للشعب الأمريكي لمن دون الخمسين من العمر.

ثانياً: عدد الذين أُدخلوا أقسام الطوارئ من المراهقين والشباب بسبب المخدرات تضاعف خلال الخمس سنوات الماضية وزاد من 52 لكل مائة ألف مريض إلى 97 في عام 2014.

ثالثاً: في عام 2016 قضى 63600 ألف أمريكي نحبهم بسبب الجرعة الزائدة، في حين كان العدد 52 ألف عام 2015.

رابعاً: انخفاض معدل عمر الإنسان الأمريكي للعامين الماضيين بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات وأسباب أخرى، حيث إن المعدل المتوقع لعمر الأطفال المولودين في عام 2016 انخفض إلى 78.6 سنة، ونسبة الموت ارتفعت 21%. 

خامساً: الكلفة المالية الحقيقية لوباء المخدرات على ميزانية أمريكا بلغت 504 بليون دولار حسب التقرير الصادر من مجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين في نوفمبر من العام الفائت.

فهذه الحقائق حول حالة المخدرات المأساوية في الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تدق ناقوس الخطر في بلادنا فتُحذرنا من الوقوع في وباء الإدمان على المخدرات وتنبهنا إلى ضرورة فتح أعيننا دائماً لمنع هذا الخطر المهدد لصحة الفرد وأمن المجتمع.

الأحد، 21 يناير 2018

ممارسة الرياضة في الشوارع، ما لها وما عليها


إذا راجعت أحد الأطباء وأنت تعاني من مرض السكري أو البدانة أو حتى عندما تكون في صحةٍ جيدة بشكلٍ عام، فإن الطبيب ينصحك فوراً إلى ممارسة رياضة المشي أو الجري أو ركوب الدراجة أو الاشتراك في أحد الأندية الرياضية كوسيلة للعلاج من هذين المرضين وأمراضٍ أخرى كثيرة والحفاظ على صحتك واستدامة عافيتك، فقد أثبت العلم الآن أن ممارسة الرياضة بشكلٍ عام تحسن وتطور من أداء الرئتين والقلب وأعضاء الجسم الأخرى، فهي الدواء الفاعل للعلاج، وهي الوسيلة المثلى للوقاية من الأمراض والأسقام والعلل، وهي الوصفة المجانية التي لا توجد لها أعراض جانبية.

 

ولكن السؤال المحير والمعقد الذي يطرح نفسه منذ عقود من الزمن ويحاول العلماء والباحثون الإجابة عنه هو هل نمارس الرياضة في الشوارع وفي البيئات الخارجية بشكلٍ عام، وبخاصة أن تلوث الهواء الضار بصحة الإنسان والمهلك لأعضاء الجسم في ازدياد مطرد، والمصادر التي تنبعث منها السموم لا تعد ولا تحصى وامتدت أياديها إلى كل بقعةٍ من بيئتنا؟

 

وهل الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان ويكتسبها من الرياضة في الخارج تفوق الأضرار والانعكاسات الصحية الناجمة عن استنشاق ملوثات الهواء الجوي السامة والمسرطنة، وبالتحديد تداعياتها السلبية على أداء ووظيفة الجهاز التنفسي والقلب؟

 

في الحقيقة فإن هذه المعادلة صعبة ومعقدة جداً، والإجابة عنها لن تكون سهلة وبسيطة، والباحثون منذ زمن ينشرون أبحاثهم لتقديم الإجابة الشافية والكافية لهذه المعادلة المتشابكة. وآخر بحثٍ ميداني حول هذا الشأن، ولن يكون حتماً البحث الأخير هو الدراسة المقارنة المنشورة في الخامس من ديسمبر من العام المنصرم في المجلة الطبية المرموقة "اللانست" حول أداء الجهاز التنفسي وأوعية القلب عند الممارسين لرياضة المشي في الشوارع والمناطق الملوثة مقارنة بهم أنفسهم عندما يمشون في الحدائق والبيئات منخفضة التلوث.

 

وسأقوم هنا في هذه العجالة تلخيص النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة، إضافة إلى الدراسات المنشورة سابقاً حول هذه القضية، كما يلي:

أولاً: درجة الفوائد الصحية التي تنعكس على الإنسان عند ممارسة التمارين الرياضية بشكلٍ عام في البيئات الخارجية تعتمد على عدة عوامل منها نسبة الملوثات في تلك البيئة، وعُمر هذا الإنسان، ووضعه الصحي.

ثانياً: الإنسان الذي يعاني من أمراضٍ في القلب أو الجهاز التنفسي، من الأجدى والأكثر فائدة من الناحية الصحية أن يمارس الرياضة في بيئاتٍ غير ملوثة، كالحدائق البعيدة عن الشوارع المكتظة بالسيارات ومصادر التلوث عامة، أو الأندية الرياضية المغلقة.

 

أما أنا شخصياً فأدعوكم إلى ممارسة الرياضة ولو لدقائق معدودة يومياً في أي مكانٍ كنتم في الداخل أو الخارج، فالرياضة بالنسبة لي من المَهْد إلى اللحد.

الاثنين، 15 يناير 2018

ضفدعة غبية قد ذهبت ضحية


عندما كُنَّا صغاراً في المرحلة الابتدائية، حفظنا أنشودة طريفة ذات مَغازٍ ودلائل وفوائد جمة مازلت أتذكرها وأستفيد منها وأطبقها في حياتي اليومية العملية، فهي حتى اليوم محفورة في مخيلتي ومنقوشة في صدري، وهذه الأنشودة التي أتذكر الآن القليل منها هي:


ضفدعةٌ غبية  قد ذَهبتْ ضحية


فريسة لجهلها نعم وسوء عَقلها


 


فهذه الضفدعة الغبية الجاهلة قامت بأعمال أكبر من حجمها وقدراتها وإمكاناتها المحدودة والبسيطة دون علم، أو سلطان، أو تخطيط دقيق وموزون فدمرت نفسها ومن حولها ولم تحقق أي من أهدافها.


 


وقصة الضفدعة هذه تتكرر الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد مع امرأة تسكن في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو.


 


فقد حاولت امرأة قتل حشرة معروفة ومزعجة تعض الإنسان فتمتص دمه كـ "الفامبير" بهدوءٍ شديد دون علمه أو حتى الإحساس بوجودها إلا بعد فترة قصيرة من الزمن عندما يشعر بالحكة والاحمرار الشديد في الجلد، وهي بقة السرير. فقامت هذه المرأة المرْعوبة والتي لا حيلة لديها في التخلص من هذه الحشرة والقضاء عليها برش الكحول على هذه الحشرة، والكحول مادة سائلة عضوية قابلة للاشتعال، فبدلاً من أن تقتل الحشرة وتتخلص من معاناتها منها، قضت على نفسها وأُسرتها وبيتها، فاشتعل الكحول وأوقد النار في العمارة كلها، وانتقلت ألسنة اللهب من غرفةٍ إلى أخرى. وكانت النتيجة النهائية لهذا التصرف الجاهل والساذج هي دخول ثلاثة أفراد إلى قسم الطوارئ في المستشفى وهم يعانون من مشكلات في التنفس لاستنشاقهم الدخان، إضافة إلى حرق العديد من الشقق المجاورة وإجلاء الناس من بيوتهم.


 


ووفقاً للجمعية الوطنية لإدارة الآفات فقد أكدت تقاريرها استفحال وانتشار بقة السرير في بيوت أمريكا، وارتفاع شكاوى الناس من هذه الحشرة الصغيرة المخيفة، ووقوفهم مكتوفي الأيدي عاجزين عن التحكم فيها والقضاء عليها، حتى بلغ بعضهم مرحلة اليأس والقُنوط، مما اضطر هذه المرأة وغيرها في حالات كثيرة مشابهة من استخدام أية وسيلة تقع بين أيديهم، واللجوء إلى أي علاج مهما كان للتخلص منها. فقد أكدت الدراسات الآن أن هذه الحشرة أصبحت الآن لها القدرة الذاتية على مقاومة المبيدات والسموم الموجودة في هذه المبيدات، بحيث إن كل أنواع المبيدات المستخدمة الآن لا تؤثر عليها كلياً، مما يؤدي إلى تكاثرها سريعاً بين الناس في منازلهم، وبخاصة في السرير والمفارش والكراسي القطنية.فعلى سبيل المثال هناك دراسة نُشرت في العاشر من أبريل 2017 في مجلة "اقتصاديات علم الحشرات" وقامت بتعريض مجموعة من بقة السرير لمبيدات حشرية معروفة لمدة أسبوع واحد، وجاءت نتائج الدراسة مؤكدة بأن بقة السرير تقاوم نوعين من أنواع المبيدات الحشرية الشائعة المستخدمة في هذه الحالات، وأفادت عن قدرتها على التغلب على هذه السموم ومقاومة تأثيراتها القاتلة.

 

فهذه الظاهرة التي نشهدها اليوم والمتعلقة بانتشار الحشرات في منازلنا وضعف حيلتنا في التخلص منها وعدم قدرتنا في التحكم فيها، تُلقي الضوء على عدة قضايا هامة نحتاج إلى مواجهتها ومعالجتها حتى لا نصبح كالضفدعة التي قتلت نفسها بسبب جهلها.

 

فالحشرات بشكلٍ عام تُعد جزءاً من السلسلة الغذائية في حياتنا، وعاملاً مهماً ضمن النظام البيئي العام، ومعظم الحشرات يعيش بيننا وبين ظهرانينا ومهما فعلنا فلن نتمكن من التخلص منها كلياً والقضاء عليها جذرياً، فوجودها بقدرٍ واتزان مطلوب وضروري لاستدامة حياتنا على وجه الأرض فرب العالمين لم يخلق أي كائنٍ عبثاً دون أن يكون له وظيفة أو دور أو إسهام بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في حياتنا، ولكن المعادلة الصعبة التي يجب تحقيقها هي كيفية الحد من تكاثرها في منازلنا ومكاتبنا وأماكن معيشتنا حتى لا تسبب لنا الضيق والقلق والاشمئزاز، والأمراض في بعض الحالات.

 

فلذلك حتى لا نكون كالضفدعة الغبية، فنعالج المشكلة بمشكلةٍ أخرى أكبر وأخطر، أو أن نحل مشكلة فنخلق في الوقت نفسه لأنفسنا طامة كبرى، علينا أن نتبع الخطوات التالية في مجال التعامل مع الحشرات المنزلية بشكلٍ خاص:

أولاً: النظافة العامة المستمرة لكل مرافق المنزل، وبخاصة المطبخ وغرفة الطعام من أجل إزالة فضلات الأكل مباشرة وبشكلٍ فوري.

ثانياً: تهوية وتنظيف المفارش وغيرها من الأثاث بشكل دوري وتعريضها لأشعة الشمس كتعقيم طبيعي يقضي على الحشرات.

ثالثاً: الاستخدام الرشيد لمبيدات الحشرات، وعند الضرورة فقط، وإبعاد الأطفال عند رشها في المنزل.

رابعاً: لا تنسى بعد رجوعك من السفر أن تنظف حقائبك وملابسك وأحذيتك وتتأكد من خلوها من الحشرات، فقد أكدت الدراسات أن بعض الحشرات مثل بقة السرير تنتقل معك أثناء سفرك.

 

الاثنين، 8 يناير 2018

التلوث يجعلك عُدوانياً وعنيفاً!


 

هل فكرت يوماً بأن التعرض للملوثات بشكلٍ يومي ولسنوات طويلة قد يؤثر على سلوكك، ويغير من تصرفاتك، ويهيمن على ميولك وعاداتك؟

 

وهل تخيلت يوماً بأن هذه الملوثات التي تستنشقها في كل ثانية قد تؤدي بك مع الوقت إلى أن تتحول إلى شخصٍ يرتكب أعمال العنف والجريمة والشغب؟

 

فمن المعروف تقليدياً ومنذ زمنٍ بعيد بأن التلوث، وبخاصة تلوث الهواء يؤثر على الجهاز التنفسي، فيُعرضك للسقوط في أمراض مستعصية كسرطان الرئة، والربو، والالتهابات المختلفة التي تصيب أحد أجزاء الجهاز التنفسي، ولكن في الآونة الأخيرة اتجهت الدراسات إلى سبر غور ظاهرة خطيرة بدأت تتفشى في بعض المجتمعات نتيجة لتفاقم مستوى التلوث فيها، وأخذت تكشف عن نفسها رويداً رويدا، وهي تهديد هذه الملوثات وتأثيراتها السلبية وتداعياتها الضارة على الجانب النفسي والسلوكي والأخلاقي والعقلي للإنسان، مثل جعل الإنسان أكثر ميلاً لارتكاب أعمال الشر والتصرفات السيئة والمنحرفة وأشد وقوعاً في جرائم العنف والقتل.

 

فقد أشارت دراسة عنوانها: "دراسة تحليلية للتلوث بالجسيمات الدقيقة(الدخان) والسلوكيات المنحرفة لدى المراهقين في جنوب كاليفورنيا"، ونُشرت في المجلة الأمريكية لطب الأطفال النفسي غير الطبيعي(Journal of Abnormal Child Psychology) في العدد الصادر في 13 ديسمبر من العام المنصرم، إلى أن الشباب والمراهقين الذين يعيشون في مناطق نخر فيها داء التلوث وارتفعت فيها درجة الملوثات والمواد الكيماوية السامة والخطرة أكثر قابلية من غيرهم لممارسة السلوكيات المشينة والتصرفات السيئة مثل الكذب، والغش، والسرقة، والتخريب، والهروب من المدرسة، وتعاطي المخدرات، والعنف.

 

فكأن هذه الدراسة التي راقبتْ عن كثب وبشكلٍ مستمر سلوك 682 مراهقاً دون سن الـ 19 لمدة تسع سنوات ويعيشون في مناطق ترتفع فيها الحركة المرورية وتكتظ بالسيارات في مدينة لوس أنجلوس،تفيد بأن الملوثات أصبحت كالوقود الذي يعمل على فساد الشباب وتدهور أخلاقهم وفساد سلوكياتهم اليومية وتوجيهها نحو العنف. فالملوثات، وبصفةٍ خاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر والتي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر تزحف مع الوقت إلى أعماق أعضاء جسمك الحساسة فتتراكم في الرئتين وبخاصة في الحويصلات الهوائية، كما تنتقل إلى القلب، وأخيراً تصل إلى خلايا المخ المختلفة فتؤثر على وظيفتها وعملها، وتعرقل قيامها بدورها وتصيبها بالالتهابات المزمنة. فإذا كانت هذه خلايا عصبية تتحكم في عواطف الإنسان وفي اتخاذ القرار، فإن هذه الملوثات تؤدي إلى جعل الإنسان يتخذ قرارات خاطئة ويسقطه في ارتكاب سلوكيات منحرفة غير مقبولة في المجتمع، وهذا الوضع يزداد سوءاً وتدهوراً وفتكاً على الأطفال وصغار السن، حيث إن خلايا المخ تكون عندهم في طور النمو والتطور وأية تغييرات خارجية ولو بسيطة وصغيرة تؤدي إلى نمو معوقٍ وغير سليم أو تلف كلي لهذه الخلايا، وستكون لها تأثيرات جانبية وسلبية لا تحمد عواقبها على الأطفال على المدى البعيد.

 

والدراسات والأبحاث حول تأثير الملوثات على الصحة العقلية والنفسية للبشر وعلى سلوكياتهم وتصرفاتهم بدأت تتراكم مع الوقت، وجميعها تصب في استنتاجٍ واحد ملخصه بأن التعرض للملوثات عند الصغر ولو كان لمستويات منخفضة فإنها تؤثر على السلوك البشري وميوله وتصرفاته اليومية فتجعله أكثر عدوانية وأشد ميلاً للعنف وارتكاب السلوكيات المنحرفة والسيئة. فمنذ سنوات أكدت الكثير من الدراسات بأن التعرض للرصاص الذي يتراكم مع الوقت في العظام له علاقة قوية بسلوك الشباب والمراهقين والأطفال، حيث أجمعت بأنه كلما زاد تركيز الرصاص في عظام الشباب ارتفعت لديهم القابلية لارتكاب الجرائم وأعمال الشغب والعنف والميل للخروج عن الأنظمة والقوانين، حتى أن العوامل التي تُسهم في ارتفاع نسبة الجرائم في بعض المدن الأمريكية تم ربطها الآن بالتلوث والتعرض للملوثات، وبالتحديد الرصاص، كأحد مسببات ارتفاع معدلات الجريمة. كذلك هناك الكثير من الأبحاث الميدانية التي أشارت إلى وجود علاقةٍ قوية بين غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يُسهم في رفع درجة حرارة الأرض وإحداث التغير المناخي وحالة عدم الاستقرار والعنف المسلح في بعض الدول حول العالم.

 

فهذه الأبعاد الجديدة التي تنجم عن التعرض للملوثات، وهذه الجوانب الحديثة للتلوث التي تم اكتشافها هذه الأيام ستكون لها عواقب وخيمة على مجتمعاتنا، ومردوداتها خطيرة جداً، فربما لو استمرت الملوثات في بيئتنا ولو بدرجاتٍ بسيطة ومستويات منخفضة، فسنعيش في مجتمعات تسود فيها الاضطرابات والمشاكل وعدم الاستقرار، وهذا بدوره يؤثر على الأمن القومي للدول.