الأحد، 28 يناير 2018

قصة فَتَياتْ الرادْيوم


 


حوادث التاريخ القريبة والبعيدة، المعاصرة والغابرة ليست للتسلية والترفيه وقضاء وقتٍ ممتع في قراءتها والاطلاع عليها، وليست روايات وقصص مشوقة أكل عليها الدهر وشرب ولا علاقة لها بحاضرنا وواقعنا الحالي، وإنما هي دروس حية واقعية تتكرر في أي زمانٍ أو مكان فالتاريخ يُعيد نفسه، ولذلك من الضروري والمفيد لنا اليوم أن نقف عندها طويلاً، ونمكث أمامها بعمق وتمعن لدراستها والتفكر فيها من أجل التعلم منها ومن زلاتها وهفواتها، والاستفادة من دروسها وتجاربها، واستخلاص العبر والعظات منها، لعلها تكون مرآة نرى فيها حياتنا اليوم فنرسم بها غدنا ومستقبلنا، ونكون بذلك قد طبقناً قوله تعالي: "لقد كان في قصَصهم عبرةٌ لأولي الألباب".


 


فقصتُنا اليوم التي أريد أن أقف أمامها تبدأ مشاهدها أثناء الحرب العالمية الأولى عندما قامت شركة في مدينة أورنج بولاية نيو جيرسي عام 1916 بالإعلان عن وجود شواغر لوظائف مغرية للفتيات وبرواتب عالية جداً مقارنة بالوظائف الأخرى وبسُلم الرواتب في تلك الفترة، مما أدى إلى تدافع الفتيات والجري نحو هذه الوظيفة المثيرة دون التفكير في تفاصيلها وملابستها وتأثيراتها على أمنهم الصحي، فقامت هذه الشركة بتوظيف 70 فتاة في بداية تشغيل المصنع ثم مع الوقت تم توظيف أكثر من 4000 فتاة مع التوسعة وفتح مصنعين آخرين.


 


فقد كان هذا المصنع هو الأول من نوعه في العالم أجمع، وكان يتباهى ويتفاخر في صناعة مُنتجٍ سحري وغريب وفريد من نوعه على المستوى الدولي، وعظيم الفائدة والنفع للناس بشكلٍ يومي، حيث قدَّم للعالم ساعات اليد، أو الساعات المنْبهة، أو ساعات الحائط التي تتميز بصفةٍ لا توجد مثلها في الأسواق، وهي أنها تُضيء أثناء الظلام عندما يحين الليل، وتتوهج تلقائياً باستمرار عندما تحين ساعات السواد المقفرة، وكأنها مصابيح لامعة تنير الطريق أو المنزل أو المكتب، فلا تحتاج إلى بطارية للشحن بعد فترةٍ من الزمن، ولا إلى أي مصدرٍ للكهرباء.


 


وفعلاً بدأ المصنع في الإنتاج وأبهر العالم واندهش الجميع بهذه البضاعة العملية التي لا مثيل لها في الكون، ولكن في الوقت نفسه غُرست البذور الخبيثة لكارثة صحية مزمنة أيضاً لا مثيل لها في الكون، فنزلت هذه الصاعقة العصيبة على آلاف الفتيات العاملات في المصنع. فهؤلاء الفتيات كن يتعرضن كل ساعة يومياً لعنصرٍ شديد الإشعاع هو الراديوم الموجود طبيعياً في باطن الأرض، دون أن يعلموا بخطورة هذا العنصر وتهديداته طويلة الأمد على صحتهم، فقد كان هذا العنصر الطبيعي المشع يدخل في تركيبة الدهان المستخدم في صباغة وتغطية أوجه وعقارب وأرقام الساعات المضيئة في الظلام، والعاملات كن يستخدمن الفم والشفتين للإمساك بالفرشاة الدقيقة والصغيرة المستعلمة في الصباغة، مما أدى إلى زحف هذا العنصر القاتل إلى أجسامهن عن طريق الأنف، أو الفم، أو الجلد، كما أن هؤلاء العاملات كانت ملابسهن تتغطى بهذا الدهان السحري المشع، وعند خروجهن من العمل أثناء الليل كانت أجسامهن تنير وتضيء في الظلام، حتى أن الناس أطلقوا عليهن بفتيات الأشباح أو فتيات الراديوم (The Radium Girls). وبعد سنوات من العمل في هذه المصانع انكشفت عليهن أعراض مرضية غريبة تتمثل في الإرهاق والتعب وآلام في الأسنان وتفتت عظام الفك السفلي وقابليته الشديدة للكسر، بحيث إنه كان يسقط تلقائياً وبنفسه، وأُطلق على هذه الظاهرة بـ "فَكْ الراديوم"، مما أدى في عام 1927 إلى رفع هؤلاء الفتيات لدعاوى قضائية ضد هذه المصانع القاتلة للبشر، حسب التحقيق المنشور في الـ سي إن إن في 19 ديسمبر 2017.


 


والطامة الكبرى التي انعكست على المجتمع برمته هي أن هذا العنصر المشع الأعجوبة الذي تم اكتشافه عام 1898 تم استخدامه في منتجات كثيرة يستعملها الإنسان يومياً، منها منتجات الزينة والتجميل، ومعجون الأسنان، وبعض المشروبات، وبالتحديد مشروبات الصحة والعافية وعلاج الأمراض، وأُطلق عليها المياه الروحية، أو المياه المشعة، الراديثور(Radithor)، وهي عبارة عن مياه مقطرة تحتوي على الراديوم، حيث ادعت الشركات المصنعة بأنها مياه الطاقة والصحة والجمال، لأن المواد المشعة تنبعث منها الطاقة ولذلك يمكن استخدامها للحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى طاقة إضافية كحالات التعب والإرهاق والعجز الجسدي، وأثناء ممارسة الرياضة العضلية!


 


فهذه القصة التي حكيتها لكم تتكرر الآن في كل مكان، ونراها أمامنا بصورةٍ أو بأخرى وتحت مشاهد مختلفة. فأحد المشاهد على سبيل المثال عندما فتح مصنع ألمنيوم البحرين أبوابه في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، حيث شجع الكثير من الشباب للعمل في المصنع برواتب مغرية جداً وعالية مقارنة بالشركات الأخرى في ذلك الوقت، ولكن ظروف العمل البيئية والصحية كانت صعبة جداً وسيئة للغاية، فبيئة المصنع كانت شديدة التلوث بحيث إن الرؤية كانت شبه منعدمة، وكان العمال يتعرضون كل ساعة لملوثات خطرة وللحرارة العالية والضوضاء المرتفعة، وهذا التلوث لم يؤثر على العمال وجودة الهواء في بيئة المصنع فحسب وإنما خرجت أضراره إلى الناس في خارج المصنع، ولحسن الحظ أن المصنع انتبه لخطورة هذه الأوضاع المَرَضية في الداخل والخارج، فأجرى تعديلات وتحسينات جذرية أدت إلى تطورٍ مشهود لجودة الهواء داخل المصنع.


 


والمشهد الثاني هو ادعاء الشركات كذباً وتضليلاً بأن منتجاتهم سليمة وصحية ولا تضر بالإنسان، والعمل بصورة عاجلة دون التأكد من سلامتها بتسويق هذه المنتجات بأنها سحرية ونافعة لأغراض متعددة، مثل شركات التبغ التي ادعت في العقود الماضية بأن التدخين لا يضر بالإنسان وله علاقة برجولة الإنسان وقوته، أو شركة جونسون و جونسون التي صرَّحت بأن مسحوق "تَلْكْ" الأبيض المعروف عالمياً الذي استخدمه الناس جميعاً أطفالاً وشباباً وشيوخاً لا يسبب أية مشكلات صحية، وغيرهما الكثير مما لا يسع المجال لذكرها.


 


ولذلك أنصح الجميع إلى الرجوع إلى الأحداث التاريخية لدراستها واستخلاص العبر منها وتجنب الوقوع في الأخطاء والزلات التي سقط فيها مَنْ قَبْلنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق