الأربعاء، 12 ديسمبر 2018

قرار فرنسي غير مستدام وكيف نتعظ به البحرين


في يوم السبت، الأول من ديسمبر من العام الجاري ومع دخول موسم الأعياد واقتراب أيام الفرح والسرور والابتهاج، وقعت في باريس قلب فرنسا، وبالتحديد في منطقة قوس النصر، الرمز الفرنسي التاريخي المشهور عالمياً، معركة محتدمة دموية بين الشرطة ونحو 150 ألف متظاهر، ونشبت صدامات عنيفة مميتة بين الطرفين، إستعمل فيها الشرطة الغازات السامة المسيلة للدموع، فكانت المحصلة النهائية التي تكبدتها فرنسا من الخسائر البشرية والمادية في هذه المعركة، تتلخص في سقوط ثلاث ضحايا بشرية لقوا حتفهم ونقلوا إلى مثواهم الأخير وجرح أكثر من 600، واعتقال المئات، وحرق السيارات، وتكسير نوافذ وأبواب المحلات التجارية، وتحطيم التماثيل التاريخية الأثرية ذات الطابع الرمزي الثقافي في قوس النصر، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي تم تقديرها بأكثر من 1.5 مليون يورو.

 

وهذه الحالة من الاحتجاجات الشعبية والمصادمات العنيفة بين الشعب الفرنسي والحكومة الفرنسية لم تكن وليدة ذلك اليوم فقط، وإنما اندلعت شرارتها الأولى واستمرت منذ ثلاثة أسابيع، وبالتحديد في 17 نوفمبر في المظاهرة التي شارك فيه قرابة 300 ألف في كل أنحاء فرنسا.  

 

فلماذا هذه الاحتجاجات الشعبية؟ ولماذا هذا الاحتقان الجماهيري ضد الحكومة الفرنسية؟

 

هذه المظاهرات لها عدة أسباب اجتماعية واقتصادية، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير، كانت في القرارات الحكومية المتتالية المتعلقة بزيادة ورفع الضرائب على عدة مستلزمات حيوية يومية لا يمكن لأي شعب أن يستغني عنها ومن بينها رفع أسعار الوقود، وبخاصة الديزل، وزيادة الضرائب على الغاز والكهرباء. فهذه القرارات اضطرت الناس إلى الدفاع عن لقمة العيش الزهيدة التي يعيشون عليها، وأجبرتهم إلى حماية نوعية ومستوى الحياة البسيطة التي هم أصلاً يعانون منها، فقامت مجموعة بسيطة غير مسيسة من الفرنسيين العاديين الذين لا ينتمون إلى أحزاب سياسية في التواصل مع بعض عبر وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي ونشروا احتجاجاتهم هذا من خلال عريضة يوقع عليها الناس لإبداء رأيهم وتعبيرهم عن غضبهم من هذه الضرائب الجديدة التي ترهق كاهلهم وتضعف ميزانية أُسرهم وتجعلهم غير قادرين على تحمل تكاليف الحياة المتزايدة يوماً بعد يوم، وأخذت هذه العريضة في الإنتشار وزاد الموقعون عليها يوماً بعد يوم، فنمت الحركة شيئاً فشيئا، ثم انتقلت الاحتجاجات "الورقية" إلى مرحلة تصعيدية ثانية تمثلت في المظاهرات السلمية، وأخيراً بعد أن نفد صبر الناس من عدم تجاوب الحكومة لمطالبهم، ارتفعت وتيرة الاحتجاجات إلى صدامات عنيفة وقاتلة.

 

وجاءت بعد هذا المأساة التي وقعت في القلب النابض لفرنسا، قرارات سريعة واستجابات فورية لمطالب الناس، حيث قدم رئيس وزراء فرنسا، إدوارد فيليب، يوم الأحد الثاني من ديسمبر مبادرة حسن نية وأطلق دعوة حكومية للمصالحة الوطنية، وقال بأن الحكومة ستعلق وتجمد كافة الإجراءات الضريبية المتعلقة بتنفيذ الزيادة في الضرائب لمدة ستة أشهر، سواء الإجراءات الخاصة برفع أسعر الوقود، وبخاصة الديزل أو غيرها من الضرائب، كما أكد على البدء في حوار وطني يشمل جميع المواطنين، وكل المنظمات والهيئات وفسح المجال للتشاور مع كافة المواطنين في الرابع من ديسمبر، ثم يوم الأربعاء الخامس من ديسمبر غيَّر رئيس الوزراء الفرنسي قراره الذي اتخذه قبل يومين 180 درجة، فقرر إلغاء الرسوم والضرائب على الوقود والكهرباء كلياً وحذف هذا البند من ميزانية عام 2019.

 

والآن تحليلي لهذه الحوادث المؤلمة التي وقعت في فرنسا خلال الأسابيع الماضية يتمثل في عدم إتباع الحكومة الفرنسية لسياسة التنمية المستدامة عند اتخاذ قرار الضرائب، ولذلك كان القرار غير مستدامٍ ولم ير النور فسقط سريعاً على الأرض وألغي قبل تنفيذه. فقرار رفع الأسعار وفرض الضرائب لم تتم دراسته بشكلٍ معمق يشمل أحوال كافة فئات المجتمع الفرنسي، كما إنه لم يأخذ في الاعتبار الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية للناس في فرنسا الواسعة جغرافياً والمختلفة نوعاً ما في المدن والأرياف، حيث الاختلافات في البعدين الاجتماعي والاقتصادي. فعلى سبيل المثال، المواطن الفرنسي في المدن الصغيرة يستخدم يومياً وفي كل ساعة سيارته لقضاء حوائجه اليومية، في حين أن المدن الرئيسة تتمتع بشبكة واسعة وسريعة ومختلفة من وسائل النقل الجماعي، ولذلك فالزيادة في أسعار وقود السيارات تنعكس بشكلٍ أكبر وأشد وطأة على سكان الأرياف والمدن البعيدة والصغيرة.

 

وخلاصة لا أريد في البحرين أن تمر علينا مثل هذه الحوادث الكارثية، فعلينا أن نتعلم منها ونتعظ بها ونستفيد منها الدروس، كما يلي:

أولاً: تطبيق سياسة التنمية المستدامة يعني دراسة أي قرار في الدولة من جميع النواحي، وليس من الناحية الاقتصادية الإيجابية فقط التي تثري ميزانية الدولة على المدى القريب، فيجب دراسة الأبعاد الاجتماعية والأمنية والسياسية لأي قرار، كما يجب النظر بعمق أكثر إلى مردودات القرار على الفئات المستضعفة والفقيرة.

ثانياً: عدم التهاون في امتعاض الشعوب واحتقانهم تجاه أية قضية، فيجب احتواؤها قبل أن تستفحل وتتحول إلى أعمال عنف، ومما يؤسف له فإن الكثير من الحكومات لا تنتبه إلى نبض الشارع إلا بعد أن يخرج إلى الشارع.

ثالثاً: تخصيص جهة حكومية غير أمنية لمتابعة قضايا الناس وهواجسهم وانتقاداتهم من خلال وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي، ثم دراستها والتعرف على مدى مصداقيتها وانتشارها في المجتمع، ثم محاولة علاجها وتفاديها قبل أن تتفاقم وتستفحل.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق