الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

لماذا يهرب الناس من المدن؟


عادة ما نسمع أو نقرأ عن زحف الناس وهجرتهم من القرى والأرياف إلى المدن بحثاً عن العمل والوظيفة المناسبة ذي الراتب العالي والمغري، أو الانتقال هروباً من حياة الأرياف البسيطة والنائية وغير المتطورة إلى حياة المدن العصرية الراقية والمرفهة والتي وتوجد بها كافة الوسائل الحديثة التي يحتاج إليها الإنسان.

 

ولكن اليوم وفي بعض المدن الحضرية العريقة قد انعكست الآية، وانقلبت ظاهرة هجرة الناس إلى المدن، فأصبحت هناك ردة فعل مغايرة جديدة عند الكثير من سكان المدن، فوقعت الهجرة المعاكسة من المدن الصاخبة والمزدحمة إلى الضواحي والأرياف والقرى البعيدة الهادئة والمريحة.

 

فهناك عدة أسباب أدت إلى انتشار هذه الحالة العصرية الحديثة، ومن أهمها الآن استفحال أزمة التلوث في المدن الحضرية الكبيرة، وتجذر وتعمق الملوثات في كافة عناصر بيئة المدن من مياه الشرب والمسطحات المائية والتربة والهواء الجوي، فتدهورت جودة الهواء إلى درجة أصبحت لا يمكن تحملها من قبل الإنسان، بحيث تحولت من هواءٍ نظيفٍ عليل يقي صحة الإنسان ويحسن أمنه الصحي ويحميه من شر الأمراض المستعصية إلى هواءٍ سقيم مشبع بشتى أنواع الملوثات السامة والمسرطنة التي لا تعد ولا تحصى.

 

فهذا الوضع المأساوي الخطير للمدن المزدحمة بكافة مصادر التلوث، وبخاصة تلوث الهواء والضوضاء والأصوات المرتفعة الناجمة عنها كالسيارات والقطارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع الكثيرة والمترامية في كل مكان، أجبر من يستطيع من سكان هذه المدن ولديه القدرة والإمكانات المالية إلى الذهاب بأطفاله والهروب بباقي أفراد أسرته بعيداً كلما أمكن عن مركز المدينة ومصادر تلوثها وفساد هوائها، والانتقال إلى القرى والأرياف والمناطق غير الملوثة.

 

والتقارير والدراسات العلمية الميدانية، إضافة إلى الحوادث البيئية التي تقع في بعض المدن الشديدة التلوث تؤكد وتبين حجم التلوث الرهيب الذي يعاني منه سكان المدينة وأمراض التلوث التي يقعون ضحية سهلة لها.

 

فقد نشرت مجلة اللانست الطبية بحثاً في 18 نوفمبر من العام الجاري يثبت وجود هذه الظاهرة في واقعنا الحالي في المدن نتيجة لتلوث الهواء الجوي، حيث أشارت الدراسة إلى أن أطفال مدينة لندن يفقدون نحو 5% من فاعلية الرئة وقدرتها ووظيفتها بسبب تلوث الهواء، وبخاصة من سيارات الديزل حيث الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر التي تزحف إلى الرئة فتستقر في أعماقها وبالتحديد في الحويصلات الهوائية، مما يؤدي إلى تلف رئة الطفل منذ الصغر حتى يكبر، أي من المهد إلى اللحد. فهذا التأثير المستدام لتلوث الهواء على فلذات أكبادنا، أجبر العوائل واضطرهم إلى حماية صحة أطفالهم ووقايتهم من الأمراض والعلل المتعلقة بتلوث الهواء عن طريق إبعادهم عن التعرض لهواء المدينة الملوث والانتقال رغماً عن إرادتهم ورغبتهم إلى مناطق أكثر أمناً وسلاماً من ناحية جودة الهواء ومن الناحية الصحية.

 

وقد أكدت منظمة الصحة العالمية على هذه الحقيقة المتعلقة بتدهور نوعية الهواء في معظم مدن العالم، حيث أكدت في تقريرها المخيف والمنشور في 29 أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان: "تلوث الهواء وصحة الطفل "أن 93% من أطفالنا وفلذات أكبادنا حول العالم يستنشقون هواءً ملوثاً ويتجرعون مواداً كيميائية سامة وخطرة كل ثانية من حياتهم، وأن أكثر من 1.8بليون طفل دون سن الـ 15 عاماً يعانون من أمراضٍ مزمنة نتيجة لتعرضهم كل ساعة للهواء الملوث في داخل المنزل وخارجه، كما أفاد هذا التقرير الصادم والمرعب بأن قرابة 600 ألف طفل قضوا نحبهم في عام 2017بسبب أمراض الجهاز التنفسي الناجمة عن تلوث وتدهور نوعية الهواء الجوي.

 

فكل هذه الحقائق العلمية الصاعقة لا شك بأنها كافية ومقنعة لتجبر الأسر حول العالم إلى وقاية أطفالهم من كَرْبْ التلوث، والحفاظ على أمنهم الصحي، وجعله الأولوية في اتخاذ القرار المتعلق بمكان السكن، أو موقع المدرسة التي يذهب إليها الأطفال كل يوم، أو الجامعة التي يلتحقون بها.

 

ولحسن الحظ أن المدن الكبيرة حول العالم تتكون من مركز المدينة حيث نسبة التلوث المرتفعة ثم الضواحي والأرياف والقرى البعيدة نسبياً عن الازدحام والاكتظاظ المروري ومصادر التلوث الأخرى، ولذلك بالإمكان الهروب من بؤرة التلوث إلى مناطق أكثر أمناً وراحة نفسية وجسدية، ولكننا في البحرين لا نمتلك هذه الميزة، فبيئة الأرياف والبساتين الجميلة الوادعة والهادئة والممتعة قد انقرضت وتحولت إلى كتلٍ خرسانية وأعمدة حديدة جوفاء وصماء لا روح لها ولا متعة من رؤيتها أو السكن بالقرب منها.

 

فالبحرين الآن في تقديري واستناداً إلى الدراسات التي أجريتها منذ أكثير من ثلاثين عاماً، قد تحولت كلها إلى "مدينة حضرية" كبيرة، شديدة الازدحام بالسيارات، وكثيفة الاكتظاظ بالمركبات، بحيث إن المصانع أصبحت الآن في قلب هذه المدينة الكبيرة التي تتوسع كل يوم على حساب البيئات العذراء البكر والوادعة، فتأكل كل يوم شبراً بشبر من جسد البر والبحر معاً، فأين الفرار إذن من آفة التلوث؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق