الخميس، 11 يوليو 2019

مياه المجاري تُفْشي أسرار الشعوب



كل ما نفعله ونقوم به في النهار أو في ظلمات الليل والناس نيام، وكل ما نفعله يومياً في السر أو في العلن، فإن هناك من يشهد على تصرفاتنا وأفعالنا وممارساتنا هذه دون أن نعلم أو أن نشعر به، فلا توجد خصوصية شخصية، وهذا الشاهد على أفعالنا وأعمالنا لم يخطر على بال أحد، ولم يفكر فيه أي إنسان، ولم يقع على قلب بشر إلى في السنوات القليلة الماضية، وهو مياه المجاري التي تنتقل من منازلنا ومكاتبنا وعماراتنا إلى محطات مياه المجاري لمعالجتها والتخلص منها بأسلوب بيئي وصحي سليمين.

فمع تقدم العلم، وتطور الأجهزة والمعدات، وإبداع واستحداث طرق التحليل السريعة والدقيقة للمواد الكيميائية والملوثات الموجودة في مياه المجاري، استطاع الباحثون من خلال تحليل مياه المجاري، أو عن طريق تحليل حمأة مياه المجاري الصلبة التعرف على ما نأكله ونشربه في اليوم والليلة، وتحديد ما نتناوله من أدوية وعقاقير من الناحيتين النوعية والكمية، أو حتى ما نأخذه من محرمات تتمثل في شرب الخمر وتعاطي الأنواع المختلفة والمتعددة من المخدرات.

فعادات وتصرفات الشعوب والأفراد الخاصة والسرية من حيث الأكل والشرب بشكلٍ عام تنعكس على الملوثات التي تظهر في مياه المجاري، فهي يمكن اعتبارها أحد المؤشرات الحيوية الموثوقة التي تُستخدم لهذا الهدف، وتُقدم لنا صورة عامة وواضحة لا غبار عليها عن هذه التصرفات الاجتماعية الخاصة للناس.

فعلى سبيل المثال ومن أجل توضيح وتقريب الصورة أقدم لكم ما حدث مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أراد المسؤولون في ولاية واشنطن الأمريكية معرفة التغير في تعاطي سكان الولاية للمخدرات، وبالتحديد الحشيش أو الماريوانا، وذلك بعد السماح لاستخدامه في الأول من أغسطس عام 2014، وطرح السؤال التالي: هل زاد تعاطي الناس في الولاية للحشيش، أم انخفض خلال الثلاث سنوات الماضية بعد فتح باب استعماله على مصراعيه أمام الناس.

فكانت الإجابة عن هذا السؤال موجودة في مياه المجاري الناتجة عن سكان هذه الولاية من خلال إجراء تحليلٍ مخبري لهذه المياه الآسنة، والبحث عن تركيز ونوعية المركبات الكيميائية التي تنتج عن تحَلُلْ الحشيش في جسم الإنسان، ثم خروج هذه المواد المتحللة مع البول.

فقد قام المعهد الوطني لاستخدام المخدرات بتمويل ودعم دراسة لمدة 3 سنوات قامت بها إحدى الجامعات في الولاية، وتهدف إذن إلى معرفة أنماط التغير الزماني في أعداد مستخدمي الحشيش، حيث توصلت الدراسة المنشورة في مجلة الإدمان (Addiction) في 18 يونيو من العام الجاري تحت عنوان: “استخدام مياه المجاري لمراقبة ومتابعة تأثير السماح لبيع الحشيش على تعاطيه في ولاية واشنطن الأمريكية" إلى استنتاجٍ عام مُلخصه بأن هناك ارتفاعاً مشهوداً في أعداد الذين يتعاطون الحشيش بلغ الضعف، وذلك بعد أن تم تحليل الحشيش للجميع والسماح لاستعماله لأغراض شخصية وللترويح عن النفس، وهذا الاستنتاج في الواقع يتعارض مع المثل المشهور "كل ممنوع مرغوب". 

ومن هذا المثال، وأمثلة كثيرة أخرى بدأت تظهر بين الحين والآخر في المجلات العلمية، يُجمع العلماء الآن بأن مياه المجاري تُعد ثروة غنية من المعلومات العامة عن حال الناس، وتحتوي هذه المياه القذرة على كنز وفير لا ينضب من المؤشرات، وبها موسوعة متنوعة من شتى العلوم والتخصصات، فهذه المياه والحمأة الصلبة الناجمة عن معالجتها تحولت اليوم إلى واحةٍ للعلماء والباحثين للكثير من الاكتشافات وإفشاء أسرار الشعوب وعاداتهم الاجتماعية وتصرفاتهم الخفية، فكل ما يفعله الإنسان في عقر داره يَفْصحُ عن نفسه في مياه المجاري.

فإذا كان الشعب في مدينة من مدن العالم مدمناً على الأفيون فإن هناك مواد كيميائية تظهر في مياه المجاري وتؤشر وتؤكد على شيوع تعاطي هذا الشعب للأفيون، وإذا كانوا يتعاطون الكوكايين أو الحشيش أو غيرهما من المخدرات الأخرى، فإن هناك ملوثات ومواد كيميائية أخرى تخرج من أجسامهم فتنتقل إلى مياه المجاري وتكشف سرهم وجريمتهم، وإذا كانت هذه الأمة كثيرة الشُرب لأم الخبائث، الخمر، فهناك أيضاً مواد كيميائية محددة ومعروفة لدى العلماء المختصين عن تحللات محتويات الخمر في جسم الإنسان فتكشف عن نفسها بنفسها، كذلك إذا كان الناس في هذه المدينة يكثرون في استخدام المبيدات الحشرية، فهناك ملوثات خاصة تؤشر على استعمال الناس لها، وهذا أيضاً ينطبق على إدمان الشعوب على بعض الأدوية والمسكنات والمهدئات والمضادات الحيوية وغيرها، وهكذا بالنسبة للمواد الاستهلاكية الأخرى التي تستخدمها اليوم كل يوم، فلا يمكن بعد الآن إخفاء أي شيء مهما كان.

وكل هذه المعلومات الحيوية والمؤشرات الهامة التي يكتشفها الباحثون من خلال تحليل مكونات مياه وحمأة المجاري الصلبة وشبه الصلبة، يمكن أن يستفيد منها رجال السياسة، والقانون، والمسؤولون في الحكومات، فيرسمون السياسات العامة تبعاً للنتائج التي يحصلون عليها، كما يمكنهم سن التشريعات ووضع الأنظمة والضوابط اللازمة لكبح جماح أية عادة سيئة، أو ممارسة غير صحية وغير مقبولة اجتماعياً يقوم بها سكان أية مدينة أو دولة حول العالم.

ولذلك لا تستهينوا بمياه المجاري، ففيها الخير الكثير والعميم! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق