الاثنين، 8 يوليو 2019

قضية بارجات القمامة تُبعث من جديد



ربما لا يتذكرُ أحد منكم الحادثة التي نَقَلتَها كل وسائل الإعلام المرئية، وقرأتُ عنها كثيراً في الصحف والمجلات الغربية والشرقية على حدٍ سواء، ولكن هذه الحادثة لم تقع اليوم، فهي وقعت قبل أكثر من 32 عاماً، وبالتحديد في 22 مارس 1987.

فما الذي ذكَّرني بهذه الحادثة اليوم؟ وما هي المناسبة؟

فالسبب هو أن هناك عدة حوادث مشابهة وقعت أمامي خلال الأيام الماضية، فأَرجعتْ بذاكرتي إلى الوراء أكثر من ثلاثة عقودٍ من الزمان، وأحيت في مخيلتي تلك الحادثة الغابرة.

فالمشهد الأول للحادثة الأولى من القرن المنصرم يُسدل فيه الستار على صورة بارجة اسمها موبورو 4000(Mobro 4000) وهي واقفة في ميناء مدينة ساحلية اسمها اسليب (Islip) في مدينة نيويورك بولاية نيويورك الأمريكية، وتَحمِل على ظهرها أكثر من 3100 طن من المخلفات المنزلية الصلبة الناجمة عن المنازل والمطاعم والشركات التجارية في المدينة.

ثم يأتي المشهد الثاني بتحرك البارجة في رحلة مجهولة لا يُعرف مصيرها، ولا يدري أحد أي شيء عنها، حتى قائد البارجة نفسه فلا يدرك أين وجهتها وطريقها وفي أي ميناءٍ لترسو. فقد اتجهتْ البارجة إلى ست ولايات أمريكية على الساحل الشرقي واقعة على المحيط الأطلسي، ثم إلى خليج المكسيك ومنها إلى ثلاث دولٍ أخرى، كان آخرها دولة بليزي(Belize) بالقرب من المكسيك، وفي كل موقفٍ من هذه المواقف لا تجد أية جهة أمريكية أو غير أمريكية تحمل عنها عبء هذه المخلفات المنزلية، وتُزيل عنها هذا الحمل الثقيل، وفي كل موقف ترجعُ خائبةً متحسرة، حتى استمرت على هذه الحالة نحو ستة أشهر، وقطعت خلالها أكثر من 9600 كيلومتر بدون جدوى.

أما المشهد الثالث والأخير فنرى فيه هذه البارجة وعليها حمولتها من القمامة، وهي عائدةٌ من حيث أتت، وراجعة إلى الميناء الذي غادرت منه، وهو مدينة اسليب بولاية نيويورك، حيث إن هناك أيضاً واجهت المتاعب والدعاوى القانونية ضدها، إذ أن السلطات المحلية رفضت إنزال شحنة القمامة!

أما حوادث بارجات وسفن القمامة التائهة اليوم فهي تتمثل في عدة حوادث كانت مشاهدها تُصور في دول شرق آسيا، وأَذكرُ بعضها على سبيل المثال لا الحصر. فالمثال الأول مسرحه في الفلبين، وبالتحديد في ميناء في خليج سوبك بالقرب من العاصمة مانيلا، حيث تشاهد في يوم 31 مايو من العام الجاري سفينة شَحنْ تحْمِل إسم (M/V Bavaria) وهي تُحمِّل في بطنها 69 حاوية قمامة منزلية ومخلفات بلاستيكية ويبلغ وزنها الإجمالي نحو 1500 طن، وهذه السفينة تستعد لتخوض عرض البحر وتعود أدراجها من حيث أتت، وبالتحديد من الدولة التي تركت القمامة في الفلبين وهي كندا، حيث تستغرق رحلتها 20 يوماً حتى تصل إلى وجهتها النهائية في ميناء فَانْكُوفَر الكندية.

ولهذه الحمولة من القمامة قصة عجيبة خَلقتْ أزمة دبلوماسية حادة على أعلى المستويات بين كندا والفلبين، بل وأدت إلى مشاحنات ومعارك كلامية تهديدية بين رئيس الفلبين ورئيس الوزراء الكندي، حيث إن هذه القمامة الموجودة الآن في الفلبين كانت قد هُجرت في الميناء منذ عام  2013 دون موافقة السلطات الرسمية في الفلبين، ومنذ ذلك الوقت ولأكثر من ستة أعوام تدعو الفلبين كندا لاسترجاع هذه القمامة وأخذها إلى دِيارها في بارجة القمامة كما جاءت، ولكن السلطات الكندية كانت دائماً تماطل وترفض، حتى هدَّد رئيس فلبين بأنه سيرمي هذه المخلفات أمام سفارة كندا في الفلبين، أو سيلقيها في البحر في المياه الإقليمية الكندية.

وبالمثل حدث بالنسبة لماليزيا في 31 مايو من العام الجاري والتي أَرجعتْ بارجة للقمامة والمخلفات البلاستيكية وهي تحمل على ظهرها نحو ثلاثة آلاف طن من المخلفات إلى إسبانيا، ومثلها إلى دول غربية أخرى وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وطبعاً لا يعلم أحد أين ستذهب هذه البارجات في النهائية، فهل فعلاً ستحط رحالها في بلدِ مصدر هذه المخلفات، أو تبحث عن أرضٍ أخرى للتخلص منها؟

فهذه البارجات التي تحمل القمامة وتجوب البحار والمحيطات أصبحت ظاهرة عالمية قديمة ومتجددة، ولها في تقديري أسباب متعددة، كما يلي:
السبب الأول هو أن معظم دول العالم تعاني من مشكلة مزمنة في قضية الإدارة البيئية الصحية والمستدامة للمخلفات المنزلية الصلبة، فأحجامها في ارتفاعٍ مطرد، ويقف العلماء ورجال السياسة حائرين في التعامل معها وعاجزين عن التخلص منها بطرقٍ سليمة، ولذلك كانت الكثير من دول العالم تُصدِّر جزءاً من مخلفاتها إلى بعض دول العالم التي تستورد مثل هذه المخلفات، وعلى رأسها الصين التي تحولت إلى مقبرة جماعية لقمامة العالم، وبالتحديد القادمة من الدول الغربية. ولكن بعد سنوات من هذه التجربة المريرة أيقنت الصين أن مخاطرها أكثر من منافعها، وأن تهديداتها لصحة البيئة والإنسان أكبر من مردوداتها الاقتصادية المؤقتة وقريبة الأجل، ولذلك اتخذت الصين قراراً حاسماً في عام 2018 فمنعت استيراد مخلفات العالم، مما أخذ الدول الصناعية الكبرى على حين غرة، فبحثوا عن مقابر أخرى لمخلفاتهم في دول شرق آسيا.

والسبب الثاني هو عدم اهتمام الدول بشكلٍ عام بقضية القمامة المنزلية واعتبارها قضية هامشية وثانوية لا تستحق العناية الكبرى والأولوية العظمى من حكومات الدول ولا تخصص لها الميزانية المناسبة للتعامل معها، فيتم إهمالها وتجاهلها حتى تتفاقم وتتعاظم وتتحول إلى غولٍ كبير لا يمكن السيطرة عليها، بل وفي بعض الدول كلبنان على سبيل المثال تحولت إلى قضية سياسية وأمنية.

ونحن في البحرين من الدول التي تستصغر قضية إدارة المخلفات، وذلك بالرغم من ارتفاع كمياتها كل سنة بوتيرة مستمرة وكبيرة لا تتناسب مع المساحة الصغيرة جداً للبلاد، وكثافتها السكانية العالية، وأنشطتها التنموية المتعاظمة، فمازلنا نتعامل معها على الطريقة التقليدية القديمة التي أُطلق عليها "خُذُوه فَغُلوه"، أي اجمع القمامة ثم ادفنها، علماً بأنني قد قدمتُ خطة متكاملة لإدارة المخلفات المنزلية من خلال الكتاب الذي أعددته عام 1992!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق