الخميس، 25 يوليو 2019

من المباني الخضراء إلى البحرين الخضراء


كثر الحديث عندنا في البحرين في الأشهر القليلة الماضية عن "المباني الخضراء"، حيث تم اختزال هذا المصطلح الواسع والكبير فقط في مجال الطاقة، دون الإشارة والتركيز على المجالات والقطاعات الأخرى التي تقع ضمن هذا المصطلح. وربما جاء هذا في السياق التاريخي والخلفية التاريخية لهذه القضية الكبرى، والتي بدأت منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في 15 أكتوبر 1973 عندما قررتْ منظمة الدول العربية المصدرة للبترول(أوابك) باستخدام النفط كسلاح من خلال حظر ووقف شحنات البترول الخام عن معظم الدول الغربية التي تُدعم الكيان الصهيوني، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

وكان لهذا الإعلان العربي تداعيات كثيرة وانعكاسات في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى المجال الأمني واستقرار تدفق النفط الذي هو عصب الحياة في الغرب والضامن الرئيس لاستدامة التنمية وحياة الرفاهية والعيش الرغيد لشعوب الدول الغربية. فهذه الأزمة النفطية التي واجهتها الدول الغربية جعلتها تُفكر ملياً في قضية "أمن الطاقة"، من حيث تعدد مصادر الوقود وأنواعه من جهة، ومن حيث عدم الاعتماد على الدول العربية خاصة في المستقبل، إضافة إلى إعادة النظر جذرياً في مسألة "ترشيد" استهلاك الطاقة ورفع كفاءة التشغيل في محطات توليد الكهرباء وفي المواقع الأخرى التي تستخدم الوقود بشكلٍ مباشر.

أما من ناحية الترشيد فقد اتجهت أنظار العلماء إلى عدة مجالات، منها العمارات والمباني الكبيرة والمنازل بحيث يتم اتخاذ إجراءات محددة لجعل هذه المباني أقل استهلاكاً للطاقة، ومن هذه الإجراءات نوعية الزجاج المستخدم في الأبواب والنوافذ، والتأكيد على وضع العوازل الحرارية في الداخل والخارج، ونوعية الدهان المستخدم في الأسطح والجدران الخارجية، إضافة إلى إجراءات أُطلقَ عليها شخصياً بأنها كانت "متطرفة" من حيث جعل النوافذ والأبواب محكمة جداً من ناحية، وخفض نسبة الهواء التي تدخل من الخارج إلى المباني التي تستخدم التدفئة والتبريد المركزي من ناحية أخرى. وهذا الإجراء الأخير بالتحديد كوَّن مشكلة معقدة ومتشابكة هي "التلوث في البيئات الداخلية"، فقلة التهوية أدت إلى تراكم الملوثات مع الوقت في الهواء الجوي الداخلي وزيادة تركيزها وتعريض الناس لأمراض متعددة لها علاقة بجودة الهواء، وبخاصة المرض الذي عُرف تحت إسم "مرض المباني المغلقة"(sick building syndrome).

فهذه النظرة القاصرة والضيقة المعتمدة على التفكير فقط في ترشيد وخفض استهلاك الطاقة، خَلقَ مشكلة أخرى لم تُعرف من قبل، ولم يُفكر فيها أحد، وهي مشكلة بيئية وصحية في الوقت نفسه، فاضطر العلماء عندئذٍ إلى التوفيق بين القضيتين، قضية أمن الطاقة من جهة وقضية الأمن البيئي والصحي للناس من جهةٍ أخرى، فجاءت عدة مصطلحات لفكرة واحدة معتدلة ووسطية ترُكز على الطاقة دون الإضرار بمصالح صحة البيئة وصحة الناس، وهي "المباني الخضراء"، أو "العمارة البيئية الخضراء"، أو "المباني الصديقة للبيئة"، ثم توسعت مع الوقت هذه الفكرة وأصبحت أكثر شمولية لتغطي قضايا وجوانب أخرى كثيرة متعلقة بالمبنى نفسه، مثل نوعية ومصدر مواد البناء المستخدمة داخل وخارج المبنى، ونوعية الأجهزة والمعدات المستخدمة في قطاع المياه وقطاع الكهرباء، ونوعية الزجاج والمواد العازلة المستخدمة في الأبواب والنوافذ والجدران في الداخل والخارج، ونوعية ومصدر الوقود المستعمل لتزويد المبنى بالكهرباء، وكيفية التخلص من النفايات السائلة والصلبة الناجمة عن سكان العمارة، ومصدر ونوعية المياه المستخدمة في المبنى وخارج المبني لري الأشجار، ولذلك أُطلق عليها "المباني المستدامة".

ومع نضوج فكر الإنسان، ومع تراكم خبراته وتجاربه وأخطائه، اتجه نحو التكامل والشمولية في رؤيته من خلال تحقيق التنمية المستدامة، فتحول الإنسان من السياسة الضيقة ومن تنفيذ هذه السياسة على المستوى الصغير والبسيط كالمبنى أو المنزل أو العمارة إلى السياسة العامة والواسعة وتنفيذها على مستوى الدولة برمتها، بحيث إن كل مرافق الدولة وجميع قطاعاتها التنموية، سواء أكانت قطاع خاص أو عام، تقوم بشكلٍ متكاملٍ وشامل إلى تنفيذ هذه السياسة الوطنية وتحقيق الرؤية المستدامة.

ومن أمثلة ذلك التحول العام من "المباني الخضراء المستدامة" إلى "المدينة الخضراء المستدامة"، وأخيراً إلى "الدولة الخضراء المستدامة" والاقتصاد الأخضر.

والتحول إلى الدولة الخضراء المستدامة يحتاج إلى تغيير جذري في ثقافة الشعب بكل مستوياته وطبقاته ودرجاته العلمية، فهي منهج شامل وكامل للحياة يُطبقه الشعب من المهد إلى اللحد، وهي سياسة عامة معقدة ومتشابكة تضعها الحكومات والدول لتحويل جميع المدن من النهج التقليدي العشوائي غير المنظم والمتداخل إلى النهج الحديث الإبداعي الذي يعتزم في نهاية المطاف تحقيق التنمية المستدامة من خلال ضم وإدخال البعد البيئي الصحي والعامل المتعلق بحماية موارد وثروات البيئة وصيانتها في كافة أجهزة ووزارات وهيئات الدول دون استثناء، سواء أكانت وزارة الدفاع، أو الداخلية، أو البيئة، أو التربية، أو الصحة، أو المواصلات، فكل وزارة دور ووظيفة تقوم بها بحيث تصب كل هذه الجهود في مصلحة حماية صحة البيئة والإنسان، وأخيراً في مصلحة تحقيق الدولة للتنمية المستدامة.

فالدولة الخضراء تعني وضع وتنفيذ معايير ومواصفات في مجال البناء في تلك الدولة بحيث تأخذ في الاعتبار رعاية كافة عناصر البيئة، ومنها المعايير الخاصة بترشيد استهلاك الماء من خلال وضع أجهزة ومعدات تقلل من استخدام الماء في عملية بناء منزل أو فلة أو عمارة أو مصنع، ومنها المواصفات الخاصة بتقنين وخفض استعمال الكهرباء عن طريق وضع العوازل على الجدران والنوافذ والأسطح واستعمال مصادر الطاقة المنخفضة الانبعاث للملوثات، ومنها أيضاً المحافظة على جودة الهواء داخل المبنى.

والدولة الخضراء تعني تبني وسائل مواصلات صديقة لصحة الإنسان والبيئة من خلال تغيير أو تحسين نوعية الوقود المستعمل في السيارات الآن، ثم التحول التدريجي إلى السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية أو الشمسية.

والدولة الخضراء تعني وضع سياسات واستراتيجيات واضحة طويلة الأمد وتحويلها إلى برامج عملية قابلة للتنفيذ في مجال إدارة المخلفات الصلبة والسائلة، سواء أكانت مخلفات المصانع، أو مخلفات البناء، أو المخلفات المنزلية الصلبة، أو مياه المجاري.

والدولة الخضراء تعني زيادة المساحات الخضراء وزيادة رقعة الحدائق سواء أكانت الحدائق المنزلية أو الحدائق العامة، وإنشاء المحميات النباتية التي تحافظ على الغطاء النباتي في الدولة بشكلٍ عام.

والدولة الخضراء تعني أيضاً إنتاج الطاقة والكهرباء بشكلٍ خاص من مصادر لا تضر بصحة الإنسان والبيئة وتجنب استعمال مصادر الطاقة الأحفوري غير المتجددة والملوثة للهواء، أو التحول إلى الغاز الطبيعي الأقل تلويثاً للهواء الجوي، ثم مع الوقت وبشكلٍ تدريجي ممنهج وضمن استراتيجية واضحة يتم الانتقال إلى مصادر لا تلوث الهواء مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة النووية.

والدولة الخضراء تعني أيضاً الاقتصاد الأخضر الذي يحمل في طياته عدة معاني عملية منها استخدام الأدوات الاقتصادية لتحويل كلفة التلوث بشكلٍ عام، أو تدمير أية بيئة بحرية بدفنها أو حفرها إلى مبلغٍ مالي نقدي محسوس، أي بعبارة أخرى وعلى سبيل المثال، كم خسارة الإنسان نقدياً من دفن البحر من خلال القضاء على الأحياء النباتية والحيوانية والثروة السمكية التي انتهت في تلك المنطقة المدفونة؟

فهذه هي الدولة الخضراء، فهل نحن مستعدون للإطلاق على البحرين بالدولة الخضراء؟    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق