الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

العدالة البيئية على المستويين المحلي والدولي


منذ أشهر وأنا أُتابع تطورات ومستجدات الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2020، وبالتحديد تصفيات الحزب الديمقراطي لاختيار من يمثل الحزب نهائياً لخوض هذه الانتخابات. وقد لفت انتباهي مضمون البرنامج الانتخابي للمرشحين الديمقراطيين، والسياسات التي يرغبون في تنفيذها في حالة جلوسهم على عرش البيت الأبيض.

فقد احتوت برامج معظم المرشحين على قضية بيئية ذي مردودات صحية واجتماعية، وكنتُ أحسبها أنها ماتت ودفنت تحت الثرى وانتهت من قاموس رجال السياسة، فقد تجاهلوها سنواتٍ طويلة ولأكثر من ربع قرن، وأهملوها كلياً حتى بدأت تتفاقم وتكشر عن أنيابها من جديد في المجتمع الأمريكي خاصة وفي دول العالم عامة.

ونظراً لانتشار هذه القضية وتغلغلها في معظم ولايات أمريكا، وظهور أبعاد خطيرة على الشعب الأمريكي، فقد قام بعض رجال السياسة بنفض الغبار عنها وإخراجها من الأدراج المغلقة وجعلها ترى النور مرة أخرى، لعلها تكون ورقة رابحة تستقطب الشعب الأمريكي وتحظى بأصواتهم أثناء الانتخابات، وهذه القضية هي العدالة والمساواة بين كافة أفراد وفئات وطبقات المجتمع، ولكن ليست العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها الجميع، وإنما هي "العدالة البيئية"، أو "المساواة البيئية"، أو ما يُطلق عليها أحياناً "العنصرية البيئية"، أو "التمييز البيئي".     

 فعلى سبيل المثال، اتخذتْ عضو الكونجرس الأمريكي عن ولاية ماساشوستس والمرشحة الديمقراطية إليزابيث وارِنْ لخوض سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية من قضية العدالة البيئية كمحور لحملتها الانتخابية، وركيزة رئيسة لسياساتها البيئية، وبالتحديد في قضية العصر وهي التغير المناخي التي انسحب ترمب من المعاهدة الدولية الخاصة بها والتي أجمع عليها دول العالم قاطبة، كما إنها قدَّمت عدة خطط ومقترحات للكونجرس نقلتها صحيفة الواشنطن تايمس في العاشر من أكتوبر لمواجهة هذه القضية المنسية والمهملة، والتي عادة ما يتجاهلها الجميع، ولم تحظ منذ عقود بالاهتمام الذي يتناسب مع حجم هذه القضية وتداعياتها على الشعوب، ومن هذه المقترحات عقد قمة في البيت الأبيض حول العدالة البيئية.
فهذه القضية تدور حول المساواة البيئية، أو عدم التمييز من الناحية البيئية بين كافة فئات الشعب، سواء أكان من طبقة غنية أو فقيرة، أو من طبقة متعلمة ومثقفة أو من العمال غير المتعلمين، فالجميع يجب أن يتساوى كأسنان المشط أمام هذه القضية من حيث تعرض كل المواطنين بالتساوي للملوثات التي تنبعث من مصادرها المختلفة، سواء أكانت ثابتة كالمصانع، ومحطات توليد الكهرباء، ومواقع دفن المخلفات الخطرة وغير الخطرة، أو كانت من مصادر متحركة كوسائل النقل، وفي مقدمتها السيارات.
فهذه الظاهرة الحديثة نسبياً بدأت تتبلور وتخرج إلى السطح والعلن منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، عندما اكتشف الباحثون في الولايات المتحدة الأمريكية عدة مشاهد وأنماط سلبية في مجتمعاتهم، وتتمثل في وجود المناطق الصناعية والمصانع الثقيلة الشديدة التلوث، أو مواقع دفن المخلفات المنزلية والخطرة في أحياء ومناطق الأقليات والمهمشين والفقراء غير المتعلمين، والذين لا يعرفون حقوقهم المدنية، أو ليس لديهم المال والنفوذ للدفاع عن أنفسهم لمنع مثل هذه المظاهر التي تدهور البيئة من جهة، وتضعف قواهم الصحية وتصيبهم بالأمراض المزمنة من جهة أخرى.

فهذه الظاهرة تعني أن الأغنياء والأثرياء الذين يمتلكون المال والجاه والسلطة والنفوذ يعيشون في بيئات نظيفة ونقية غير ملوثة وبين الحدائق والمتنزهات الغناء وبعيدين بعد المشرق عن المغرب من مصادر التلوث، ويتمتعون بالهواء الصحي والعليل والماء العذب الزلال، في حين أن المستضعفين والفقراء من ذوي الدخل البسيط والتعليم المتدني يعانون الأمرَّين، فهم من جهة يتعرضون يومياً لتلوث مكونات البيئة برمتها ومصادر التلوث والفساد موجودة في عقر دارها، ومن جهةٍ أخرى يواجهون تدميراً مستداماً لصحة البدن والعقل والنفس.

فهذا الوضع غير الصحي وغير العادل الذي يقع تحت وطأته الملايين من البشر في الولايات المتحدة الأمريكية، أيقظ نفوس الكثير من العلماء والمثقفين ورجال الإعلام والقانون وبعض الجمعيات والمنظمات الأهلية، وبخاصة التي تمثل الأقليات من السود والهنود والحمر والذين من أصول إسبانية، فأثاروا جميعاً ضجة واحدة عارمة بلغ صوتها البيت الأبيض، مما اضطر مجبوراً لمواجهتها وتخفيف حدتها على الشعب الأمريكي وامتصاص غضبه.

فقد قام الرئيس الأمريكي بل كلنتون في 11 فبراير 1994 بإصدار أمر تنفيذي رقم (12898) إلى جميع الإدارات والهيئات الاتحادية لتوجيه اهتمامهم إلى ممارسة العدالة البيئية وعدم التمييز بيئياً في مجتمعات الأقليات والمجتمعات الفقيرة، وتمخض عن هذا الأمر التنفيذي بعد أكثر من سنة وضع "استراتيجية العدالة البيئة" لكي تحدد السياسات العامة المراد تطبيقها في جميع الولايات. كما قام البيت الأبيض بإنشاء إدارة خاصة ضمن وكالة حماية البيئة هي مكتب العدالة البيئية، والتي تُعنى بجميع الأمور المتعلقة بالمساواة البيئية بين المواطنين على أساس الجنس واللون والحالة الاجتماعية والعلمية.

فهذا هو شأن ووضع العدالة البيئية على المستوى المحلي القومي في الدولة الواحدة، ولكن ماذا عن تطبيق مبادئ العدالة البيئية على المستوى الدولي، أو بين دول وشعوب العالم؟

فمن المعروف حالياً بأن هناك بعض المشكلات البيئية الدولية التي لا شأن للكثير من الدول وشعوب العالم في وقوعها، فهي تكونت بسبب الأنشطة التنموية غير المستدامة في الدول الصناعية المتقدمة الكبرى منذ أكثر من قرن، ولكن معظم تأثيراتها وانعكاساتها التدميرية للبيئة والإنسان والكرة الأرضية برمتها تتضرر منها بشكل رئيس شعوب ودول العالم النامي الفقيرة والمتأخرة التي ليست لها الإمكانات المالية والفنية والتقنية لمواجهتها والتصدي لها، وعلى رأس قائمة هذه المشكلات ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض وما ينجم عنها من ارتفاع في مستوى سطح البحر ووقوع الأعاصير والفيضانات والأمراض.

ولذلك على الدول الصناعية الثرية التي تطورت وتقدمت على حساب موارد وثروات شعوب العالم ولوثت الكرة الأرضية برمتها أن تطبق مبادئ العدالة البيئية الدولية وتتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والتاريخية كاملة تجاه بيئة وشعوب الدول المستضعفة الفقيرة في كل أرجاء كوكبنا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق