الاثنين، 21 أكتوبر 2019

بلغ التلوث إلى ما لا يخطر على بال أحد!


همٌ كبير يشغل بالي منذ عقود طويلة، ويملأ فكري ونفسي قلقاً وغماً، ولا أدري كيف أُزيل هذا العبء الثقيل عن كاهلي، ففي كل يوم أقرأ دراسة علمية واقعية في مجال تلوث الهواء ترفَعُ درجة واحدة من همي وقلقي، حتى أنني يراودني في بعض الأحيان شعور سلبي يدعوني إلى التوقف عن قراءة هذه الأبحاث المخيفة والابتعاد عنها كلياً، حتى لا يتحول هذا الهم إلى الوسواس الخنَّاس الذي يوسوس في صدور الناس فلن يفارقني بعد ذلك، ويعكر صفاء حياتي ونقاوة تفكيري وتحليلي لواقع التلوث.

فالواقع البيئي الذي نعيشه اليوم ويشهده الجميع، وبخاصة من ناحية تلوث الهواء الجوي، يحتم علي الشعور بهذه المعاناة والإحساس بالألم للعمق الذي بلغه التلوث، ولا أقول في مكونات البيئة فحسب، وإنما وُلوجِه في جميع أعضاء أجسامنا صغيرة كانت أم كبيرة، بل وأستطيع أن أُجزم بأن الملوثات بلغت كل خلية من خلايا أجسامنا مهما كانت بعيدة ونائية داخل الجسم، حتى إنني أَطلقت على التلوث بأنه قنبلة دمار شامل للجسم برمته.

فعندما أُخبركم بأن الملوثات الموجودة في الهواء الجوي قد زحفت إلى داخل أجسامنا فبلغت "المشيمة"، هذا العضو المؤقت الموجود في المرأة الحامل، أفلا تتفقون معي على هذا الشعور المشؤوم الذي ينتابني كثيراً منذ سنوات؟

وعندما أَحملَ لكم خبراً بأن الملوثات التي تشبع بها الهواء الجوي اليوم موجودة في خلايا المخ، هذا العضو المسؤول عن القيام بوظائف حيوية تُعين الجسم على القيام بنشاطه الحيوي اليومي، أفلا تؤيدونني وتشاطرونني إحساسي بالقلق والخوف في الوقت نفسه لما ستؤول إليها أحوالنا الصحية شباباً وشيوخاً في السنوات القادمة؟

وعندما أقول لكم بأن الدراسات أكدت بأن الملوثات التي نستهين بوجودها في الهواء الجوي ولا نلقي لها بالاً قد دخلت في أعماق خلايا المضغة العظيمة وهي القلب، الذي لا حياة بدونه، فإذا فَسدَ، فسد الجسد كله وإذا صلح، صلح الجسد كله، أفلا تشاركونني همومي بمصير الإنسان من الناحية الصحية في المستقبل المنظور؟
وبعد كل هذا ألا ترتفع عندكم نسبة الهم والغم والقلق، وتُصابون بشر الوسواس الخناس إذا قلتُ لكم بأن مصادر هذه الملوثات التي تلج إلى أعماق أعضاء أبداننا موجودة في عقر دارنا وفي بلادنا وتتمثل بشكلٍ خاص في أكثر من 711 ألف سيارة تمشي في كل شبرٍ من بلادنا، وكأنها مصانع متحركة صغيرة تبث سمومها في كل ثانية في سمائنا؟
فأما الدراسة التي أكدت بلوغ التلوث إلى المشيمة في المرأة الحامل، هي المنشورة في مجلة "اتصالات الطبيعة"( Nature Communications) في 17 سبتمبر من العام الجاري تحت عنوان: "جسيمات الكربون السوداء تصل إلى الجزء من المشيمة بالقرب من الجنين"، حيث أثبتت الدراسة بأن الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي تتكون أساساً من الكربون الأسود والناجم بشكلٍ كبير من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، تم اكتشافها في أكثر أعضاء الإنسان أمناً وسكينة وهو المشيمة التي تصل بين الأم وجنينها وتنتقل عبرها المواد الغذائية. وقد استخدمت الدراسة الأشعة المقطعية لتحليل المشيمة لعدد 25 امرأة غير مدخنة من مدينة(Hasselt) في بلجيكا، فوجدت معدل 20 ألف من الجسيمات الكربونية المجهرية في المليميتر المكعب من أنسجة المشيمة، كما أفادت الدراسة بأن تركيز هذه الجسيمات الكربونية الدقيقة في المشيمة مرتبط بالبيئة التي تعيش فيها المرأة، وبخاصة قربها من الازدحام المروري، فكلما زاد تعرضها لدخان السيارات، ارتفع تركيز الملوثات في مشيمتها.
فهذا الاكتشاف الجديد والمرعب يشير إلى قضية صحية خطيرة لها تداعياتها على الأجيال اللاحقة، وهي التدهور الصحي الذي يتعرض له الجنين وهو لا يزال في بطن أمه، وقبل أن يخرج إلى الحياة الدنيا. فهذه الدراسة قد تفسر نتائج الدراسات الكثيرة السابقة التي أوجدت علاقة قوية بين التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، وحالات مرضية متعددة تُصاب بها المرأة الحامل وجنينها، منها الإجهاض، أو الولادة المبكرة، أو الولادة غير الطبيعية، أو ولادة أطفال خُدج وأوزانهم منخفضة جداً، أو ولادة أجنة مشوهة ومعوقة وتعاني من عيوب خلْقية.

كذلك عَثر العلماء على اكتشاف مخيف ومقلق جداً في قلب الإنسان، حيث نبض الحياة الدائم، ونشروا نتائج اكتشافهم في مجلة "أبحاث البيئة" في 12 يوليو من العام الجاري تحت عنوان:" وجود الجسيمات الممغنطة المتناهية في الصغر الناجمة عن تلوث الهواء من حرق الوقود في قلب الإنسان". فقد قام الباحثون بتحليل أنسجة القلب من 72 شاباً من المكسيك ماتوا بحوادث الطرق، ثم أجروا تحليلاً لهذه الأنسجة ووجدوا فيها مستويات مرتفعة جداً من جزيئات الدخان الأسود المجهري (nanoparticles)المشبعة بالحديد الممغنط، حيث تراوحت أعدادها بين بليونين إلى 22 بليون من هذه الجسيمات في الجرام الواحد من الأنسجة الجافة للبطين، وهذا العدد المرتفع والعالي يزيد عشر مرات عن الإنسان المكسيكي الذي يعيش في مناطق أقل تلوثاً من العاصمة المكسيكية. وقد استنتج العلماء بأن التعرض للدخان الناجم من عوادم السيارات والمصانع وغيرهما في سن مبكرة واختراق هذه الملوثات لخلايا وأنسجة القلب له مردودات سلبية خطيرة على قيام القلب لأداء وظيفته، ويسبب ضعفاً لقدرته وعمله في كل ثانية، كما إن هذه الملوثات هي المتهم الرئيس في تلف خلايا القلب بشكلٍ عام وتعريض الإنسان لمخاطر أمراض القلب والموت المبكر.
فهذه الاكتشافات الحديثة تؤكد بأن الملوثات لا تضرب الجهاز التنفسي فحسب كما هو معروف تقليدياً ومنذ عقود من الزمن، وإنما هي تضرب كل عضوٍ من أعضاء جسم الإنسان، بل وتدخل في كل خلية أينما كانت وتمكث وتتراكم فيها حتى تسقط الإنسان صريعاً من شدة المرض وتنقله سريعاً إلى مثواه الأخير.
فهل بعد كل هذه الاكتشافات تلومونني إذا انتابني شيء بليغ من القلق والوسواس على الصحة العامة للمواطنين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق