الأربعاء، 15 يوليو 2020

ظاهرة بيئية عظيمة لم تنل التغطية المناسبة


أكثر من 13 مليون حالة مرضية لفيروس كورونا حول العالم، وقضى منهم نحبهم نحو 650 ألف إنسان في كل دول العالم الفقيرة والغنية، المتقدمة والمتأخرة على حدٍ سواء، فلا شك بأن هذه الحالة المخيفة والمتفشية في كل أنحاء العالم، وهذه الأرقام المهولة والمتزايدة تضطر الناس وكافة الدول إلى نسيان كافة همومهم الأخرى، واعتبار كل القضايا والأحداث والمشكلات الأخرى التي تمر بهم هامشية وبسيطة ولا تستحق الرعاية والاهتمام والتغطية الإعلامية، سواء من وسائل الإعلام التقليدية، أو من وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي الحديثة.
ولكن الظاهرة التي أُريد التنبيه إليها والتحدث عنها هي بالفعل حالة ومشكلة بيئية سنوية وموسمية نراها في كل دول العالم منذ سنواتٍ طويلة، ولكنها هذه المرَّة لم تكن كسابقاتها في العقود الماضية، فقد نزلت على المجتمع الإنساني وضربت الكثير من الدول بقوة كبيرة، وبشدة عنيفة لم تعهدها هذه الدول منذ أكثر من خمسين عاماً، حتى أن بعض وسائل الإعلام الأمريكية في 27 يونيو من العام الجاري وصفتها بالوحش الشرس المفترس، وأَطلقتْ عليها إسم حيوان جودزيلا(Godzillaوهو وحش أسطوري، يتميز بحجمه الكبير، وقدرته على تدمير الحرث والنسل.
فالرياح الصرصر العاتية، والعواصف الترابية، التي وُلدت في منطقة غرب أفريقيا في منتصف شهر يونيو من العام الجاري، وعبرتْ المحيط الأطلسي العظيم، وغزت جزر الكاريبي وكوبا وبورتوريكوا، ثم أخيراً حطت رحالها في ولايات جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هذه المرة غير طبيعية وغير عادية، فلم تكن كالسنوات الماضية والعقود السابقة في حدتها، ودرجة تأثيرها، والأضرار التي ألحقتها بالبشر والشجر والحجر. فهذه الحالة البيئية المناخية تنبع من منخفض تشاد بودلي العظيم(Chad’s Bodèle depression) في غرب القارة الأفريقية المعروف عالمياً بأنه المصدر الأكبر للأتربة العالقة والغبار، حيث تأتي في أشهر الصيف، وبالتحديد في شهر يونيو الرياح القوية الشديدة السرعة، فتحمل معها التراب والغبار وتسير بها مسافات طويلة تبلغ أكثر من 6000 كيلومتر، فتمر هذه السحب الترابية الصفراء الرصاصية اللون على المحيط الأطلسي وتُنزل على البحر الأتربة والغبار الكبير الحجم ذي الوزن الثقيل، ثم تحمل الأتربة الصغيرة والغبار الدقيق إلى المناطق البرية في جزر الكاريبي، وأخيراً تصل إلى سماء الولايات المتحدة الأمريكية، بدءاً بولاية فلوريدا، وتكساس، ثم ولايتي أوكلاهوما وكنساس، فتَكُون عندها الأتربة متناهية في الصغر فتدخل إلى أعماق الجهاز التنفسي، وتسبب أزمات صحية حادة للآلاف من الناس، إضافة إلى المردودات الاقتصادية المتمثلة في إغلاق المرافق العامة والسياحية.
وقد سبر العلماء غور هذه الظاهرة من حيث منافعها من جهة، وأضرارها من جهة أخرى، إضافة إلى الأسباب التي أدت على تفاقمها وشدتها وتكرارها في السنوات الماضية. فأما منافعها فتكمن في أن جسيمات الغبار والأتربة تمتص أشعة الشمس المحرقة فتُخفض من درجة حرارة الجو، كما أن هذه الأتربة الصحراوية تكون مشبعة بالمعادن والمواد المفيدة والمغذية كالحديد والفوسفور، فهي عندما تنزل على الغابات والأشجار البرية والبحار، فإنها تعمل كسماد طبيعي وفطري لتربة هذه النباتات في البر التي تفتقر إلى المواد الغذائية، إضافة إلى النباتات أو الفيتوبلاكنتون التي تعيش في عمود ماء البحر.
وأما الأضرار فيمكن تلخيصها في عدة قضايا حيوية من أهمها الجانب الصحي، والذي تم بحثه في دراسة جامعة وشاملة نشرتها جامعة ستانفورد الأمريكية المشهورة في 29 يونيو 2020 في مجلة استدامة الطبيعة(Nature Sustainability) تحت عنوان: "التلوث بالغبار من المناطق الصحراوية وعلاقته بموت الأطفال في أفريقيا". وقد خلصت الدراسة التي شملت 30 دولة تتعرض لهذا الغبار إلى وجود علاقة بين نسبة الغبار والأتربة في الهواء الجوي وارتفاع أعداد موت الأجنة والأطفال الرضع، إضافة إلى تأثير الغبار على وزن الجنين ونموه وتعقيدات الحمل والولادة.
وجدير بالذكر فإن ظاهرة العواصف الترابية يمكن مشاهدتها في كل دول العالم بدون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة في شدتها وتكرار وقوعها والأضرار التي تنجم عنها. فدول الخليج من بين دول العالم التي تعاني بشكلٍ مستمر من ويلاتها الخطرة، وتداعياتها العقيمة على البيئة والصحة العامة.
والقضية الهامة التي أريد أن أقف عندها وأركز عليها حول الأبعاد المتعلقة بالغبار والرياح المحملة بالتراب هي دور الإنسان في تفاقم هذه الظاهرة وزيادة تكرارِ وقوعها في دولنا، والمسؤولية التي تتحملها أيدينا في تحويل هذه الظاهرة الطبيعية القديمة النافعة إلى كارثة بيئية وصحية تنعكس على الفرد والمجتمع.
فهناك العديد من الممارسات الخاطئة والأنشطة التنموية غير المستدامة التي قُمنا بها في العقود الماضية والتي أدت إلى أن تكون هذه الرياح الترابية والغبار أشد وطأة وتنكيلاً بالبشر وبيئتهم والحياة الفطرية، كما أدت هذه البرامج الإنسانية العشوائية غير المدروسة إلى ارتفاع وتيرة وقوع هذه العواصف، ومن أهمها ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض. فالإنسان أطلق العنان للكثير من الملوثات وسمح لها بالانبعاث إلى الهواء الجوي منذ أكثر من قرن من مصادر كثيرة لا تعد ولا تحصى في كل أنحاء العالم، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان. فكل سيارة تتحرك على الأرض، أو طائرة تطير في أعالي السماء، أو محطة لتوليد الكهرباء، أو مصنع يحرق الوقود الأحفوري، فكل هذه الملايين من المصادر تُطلق الملوثات التي تهدد الكرة الأرضية برفع درجة حرارتها وخفض معدل هطول الأمطار فيها. وكل هذه المردودات تؤدي إلى زيادة رقعة المناطق الجافة الخالية من المياه فترفع من وتيرة وسهولة تفكك التربة ويُسر حركتها وانتقالها من خلال الرياح من منطقة إلى أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عنها، فتسبب لها الأعاصير الترابية والريح المحملة بالغبار.
وفي المقابل أيضاً الحروب المؤسفة والعمليات العسكرية التي فُرضتْ علينا في منطقة الخليج وتحرك الآليات والمعدات العسكرية الثقيلة والشاحنات الكبيرة في المناطق الصحراوية قضت كلياً على الغطاء النباتي الفطري من الأعشاب والشجيرات البرية التي تثبت التربة وتمنعها من الحركة، كما أنها رفعت من درجة انكسار طبقة التربة الصحراوية وزادت من عدم استقرار هذه التربة السطحية الجافة، وبالتالي سهولة حركتها ونقلها للغبار بين المدن والدول. كذلك عمليات البناء والإنشاء والحفر البحري أدت في الوقت نفسه إلى حمل الرياح لهذه الرمال والأتربة وتكوين العواصف المحملة بالغبار.
فظاهرة الغبار الطبيعية المشهودة تُعد أحد الأمثلة من بين أمثلة كثيرة على دور الإنسان وأنشطته التنموية الجاهلة بتعقيدات الأنظمة البيئية وارتباطها العضوي بمكوناتها الفطرية الحية في رفع مستوى ودرجة انعكاسات هذه المظاهر الطبيعية وزيادة تداعياتها على سلامة الإنسان وبيئته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق