الخميس، 30 يوليو 2020

السماء تُمطر مخلفات بلاستيكية!


الكثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية الجديدة تنزل على الباحثين والعلماء بالصدفة، فتجدهم يُجرون تجارب في موضوع بحثي محدد، ولكن يكتشفون ظاهرة جديدة، أو حالة نادرة لم تكن في الحسبان، ولم تخطر على بال هذا الباحث، وقد تكون بعيدة عن مجاله البحثي.

وهذا ما حدث بالفعل للعالمة والباحثة الأمريكية جانيس براهني (Janice Brahney) من جامعة ولاية يوتاه في غرب الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت تقوم بأبحاثٍ "روتينية" بسيطة وعادية تتمثل في جمع عينات من الغبار في بعض المناطق النائية في الولايات المتحدة الأمريكية والبعيدة عن أعين وأيدي البشر وأنشطته التنموية، وبالتحديد في المناطق الواقعة في جنوب وغرب أمريكا، حيث كانت تهدف إلى قياس محتوى الغبار من المركبات التي لها فوائد غذائية للنباتات مثل الفوسفور، وانتقالها عبر الرياح من منطقةٍ إلى أخرى، وتأثير وجود هذه المركبات الفوسفورية عندما تترسب على المسطحات المائية العذبة كالأنهار والبحيرات.

فعندما وضعتْ هذه الباحثة عينات الغبار التي جمعتها من 11 موقعاً بعيداً عن المدن وأنشطتها التنموية والصناعية تحت المجهر المكبر، أو الميكروسكوب، كانت تتوقع، كما هو معروف، مشاهدة حبوب اللقاح التي تنقلها الرياح من منطقة إلى أخرى، أو غبار الطَّلْع، أو رؤية بعض المعادن الطبيعية الموجودة على سطح الأرض. وبالفعل شاهدت تحت الميكروسكوب حبوب اللقاح، وبعض المعادن، وبقايا أجزاء من جسم الحشرات، ولكن في الوقت نفسه رأت ما لا يتوقعه الإنسان، ولا يخطر على باله، فقد احتوت عينات الغبار على جسيمات دقيقة جداً من المخلفات البلاستيكية المتعددة الألوان والأشكال والأحجام. فوجود جسيمات بلاستيكية في تلك المواقع النائية العذراء والبكر البعيدة جداً عن أيدي البشر من الظواهر غير المتوقعة وغير المعروفة لدى العلماء والباحثين.

فهذا الاكتشاف الغريب والفريد من نوعه أثار لدى هذه الباحثة الأمريكية حب البحث والتعمق في هذه الحالة الجديدة والتعرف عن كثب على كافة الجوانب المتعلقة بهذه الظاهرة العلمية، من حيث كمية ونوعية المخلفات البلاستيكية في الغبار وفي مياه الأمطار والثلوج، إضافة إلى سبر غور مصادر هذه المخلفات وكيفية وآلية انتقالها إلى هذه البيئات النائية والبعيدة.

فقد قامتْ الباحثة باختيار 11 موقعاً جديداً في المحميات الطبيعية الموجودة في ولايات غرب أمريكا والبعيدة جداً عن أي مصدرٍ من مصادر التلوث بشكلٍ عام، حيث جمعتْ عينات من الترسبات الجافة المتمثلة في الغبار وعينات من الترسبات الرطبة المتمثلة في مياه الأمطار والثلوج لمدة 14 شهراً. وقد أفادت الدراسة إلى أن اكتشاف المخلفات البلاستيكية في الغبار في هذه المواقع يشير إلى حركتها وانتقالها عبر مسافات طويلة جداً لخفتها وصغر حجمها، حتى أنها أصبحت الآن جزءاً رئيساً من مكونات الغبار وتحملها الرياح وتدور بها على مستوى الكرة الأرضية برمتها فتلوث كل شبرٍ قريبٍ أو بعيدة من كوكبنا. أما بالنسبة لوجود البلاستيك في مياه الأمطار والثلوج فيشير إلى أنها جاءت من مصادر قريبة من بعض المدن والمستعمرات البشرية القريبة نسبياً من هذه المواقع. وقد خلصتْ الدراسة إلى أن نحو 6% من عينات الغبار كانت تحتوي على المخلفات البلاستيكية، وأن هناك قرابة ألف طن من هذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم تترسب في هذه المناطق عن طريق الرياح والأمطار، حيث ينزل من الغبار والمطر والثلج زهاء 132 جسيماً بلاستيكياً لكل متر مربع يومياً، علماً بأن هذه الدراسة نُشرت في 11 يونيو، في مجلة العلوم تحت عنوان: "أمطار بلاستيكية في المناطق المحمية في الولايات المتحدة الأمريكية".

وهذا الاكتشاف الحديث يُضاف إلى اكتشافات أخرى تفيد بوجود البلاستيك في بيئات نائية وبعيدة أخرى في البراري والصحاري وفي أعماق البحار السحيقة والمظلمة وفي الكائنات الفطرية الحية التي تعيش فيها. فعلى سبيل المثال تم اكتشاف المخلفات البلاستيكية في أمعاء أحد الحيوانات اللافقارية الذي لا يزيد حجمه عن مليمترين ويعيش في التربة ويتغذى على الطحالب في جزرٍ نائية وبعيدة عن أعين وأيدي البشر في القطب الجنوبي، وبالتحديد في جزيرة الملك جورج في شمال قارة القطب الجنوبي، حسب المنشور في مجلة "رسائل علوم الأحياء" في 24 يونيو من العام الجاري. وهذا الحيوان الصغير يُعد من أهم الكائنات الحية في السلسلة الغذائية، مما يعني انتقال هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة وبأعداد أكبر إلى الحيوانات الأخرى الأكبر حجماً والتي تكون في نهاية السلسلة الغذائية في تلك المنطقة.

فهذا الدراسات الميدانية الحديثة تؤكد بأن المخلفات البلاستيكية التي نرميها في البر أو البحر أو في مناطق الدفن دون أن نستشعر خطورتها ترجع إلينا مرة ثانية بعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن، فتدخل في أعضاء أجسامنا دون أن نعرف ذلك. فاستنتاجات هذه الأبحاث تؤكد بأننا نستنشق المخلفات البلاستيكية المجهرية بدون أن نعلم أو أن نحس بها، أو أن نشعر بوجودها في الهواء الجوي الذي نتعرض له في كل ثانية من حياتنا الطويلة، كما أن هذه الدراسات نفسها تفيد بأننا في الوقت نفسه نأكل المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم من خلال تناولنا للأسماك البحرية أو الحيوانات والطيور البرية، فتتراكم في أجسامنا وتستقر فيها، ولا يعلم أحد التهديدات الصحية التي تمثلها لنا على المدى القريب والبعيد.

 

فاستنشاق المخلفات البلاستيكية عن طريق الأنف أو الفم، أو أكلها يعني استنشاق ودخول الملوثات الكيميائية السامة التي تتراكم على أسطح البلاستيك والتي تمتصها هذه المخلفات مع مرور الوقت، كما أن ولوج الجسيمات البلاستيكية إلى أجسامنا يعني أيضاً دخول الكائنات الحية المعدية والمسببة للأمراض في أعضاء أجسامنا كالفطريات والبكتيريا وغيرهما.

 

كل هذه الحقائق الأولية المتعلقة بالمردودات الصحية المستقبلية للمخلفات البلاستيكية الدقيقة، أو الميكروبلاستيك والنانوبلاستيك، جعلت العلماء يلجُون في مجالٍ بحثي جديد هو "دورة البلاستيك"، أي دراسة حياة البلاستيك من المهد إلى اللحد، بدءاً بإنتاجه، وإنتهاءً بطرق التخلص منه ومصيره في البيئات والأنظمة المختلفة، سواء أكانت برية، أو مائية، أو ثلجية وتركيزه في الحياة الفطرية الحيوانية والنباتية في تلك البيئات، وأخيراً كيفية وصوله إلى جسم الإنسان والأضرار الصحية التي تنجم عنه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق