الخميس، 14 أبريل 2022

الأقمار الصناعية مصدر للتلوث


لم تعد الكرة الأرضية حالياً كما خلقها الله سبحانه وتعالي، صافية، نقية، خالية من الشوائب والملوثات التي تفسد حياة الإنسان، فالهواء ليس هو ذلك الهواء الفطري البِكْر النظيف الذي يقي صحة الإنسان، حيث أحدث عليه الإنسان وأدخل في قلبه تغييرات جذرية دهورت صحته نوعياً وكمياً وغيَّرت هويته الأصلية الفطرية، كما أن البحار والبحيرات والأنهار لم تعد تلك البيئات الجميلة، النقية، العذبة التي تعيش في أعماقها الكائنات الحية بأمن وسلام، فقد لوثها الإنسان بآلاف المواد السامة والمسرطنة التي تهلك الحرث والنسل، بل وحتى أعالي السماء وعلى ارتفاعات شاهقة فوق سطح الأرض في الغلاف الجوي، طَالتْ أيدي الإنسان وعبثت فيها، فغيرت الكثير من معالمها ومظاهرها إلى درجة أنك إذا نظرتَ أثناء الليل إلى السماء العليا لتتمتع وتتفكر وتتأمل في مشهد الأجرام والشهب والنجوم والأقمار السماوية، فإنك لن تعرف ما هي طبيعي فطري، وما هي غريب ودخيل غزا تلك البيئة السماوية العالية من فوقنا، ولن تستطيع أن تميز بين ما هي من مخلوقات الله سبحانه وتعالي، وبين ما هي من صنع الإنسان، فاختلطت هذه الأجسام السماوية بعضها ببعض، حتى ولو حاولتَ مشاهدتها والتفريق بينها بالأجهزة المقربة، أو التلسكوب.

 

فالمشهد الآن في أعالي السماء، والمدارات حول الأرض وكأنها تحولت إلى شارعٍ سريع مزدحم جداً ومكتظ، ليس بالسيارات والحافلات الأرضية، وإنما بعشرات الآلاف من الأقمار الصناعية والسفن الفضائية التي تسبح واحدة تلو الأخرى في مدارات الأرض فتُضيء السماء من فوقنا، وكأنها مصابيح وأجرام سماوية طبيعية تتلألأ فوق الأرض.    

 

فهناك عدة شركات تجارية تعمل في مجال الفضاء، غير البرامج الحكومية الفضائية والبحثية، وتقوم حالياً بإطلاق الآلاف من الأقمار الصناعية الصغيرة الحجم والوزن للاتصالات وتقديم خدمة الإنترنت السريع على المستوى الدولي لكل شبرٍ قريب أو بعيد من الأرض. وهذه الأقمار الصناعية مُصممة لتستقر في نهاية المطاف في مدارات منخفضة فوق سطع الأرض(low-Earth orbit) تتراوح بين 328 إلى 1200 كيلومتر، حسب المنشور في مجلة "العلوم" في 25 سبتمبر 2020، تحت عنوان: "السماء المظلمة والأقمار المضيئة"، والبحث المنشور في 17 ديسمبر 2021 في "المجلة الفلكية"(The Astronomical Journal)، تحت عنوان: "تقديرات الرؤية للأقمار الصناعية المستقبلية والتلوث الضوئي".

 

ومن هذه الشركات التي تعمل في مجال صناعة وتدشين الأقمار الصناعية، شركة "سبيس إكس"(SpaceX) التي حسب منشورها في 22 فبراير 2022 تبلغ قدرتها الإنتاجية للأقمار الصناعية إلى 45 قمراً صناعياً في الأسبوع الواحد. كما أفاد بيان الشركة بأنها قامت بتدشين برنامجٍ دولي لتوصيل خدمة الإنترنت إلى كل أرجاء العالم تحت عنوان "ستار لينك" (Starlink)، وبدأت المرحلة الأولى من المشروع في 23 مايو 2019 بإطلاق 60 قمراً صناعياً في المدار الأرضي القريب. كما حصلت الشركة على ترخيص من "الاتحاد الدولي للاتصالات"(International Telecommunications Union) و"هيئة الاتصالات الاتحادية للولايات المتحدة"( U.S. Federal Communications Commission) لإطلاق 11943 قمراً صناعياً في المستقبل. وعلاوة على ذلك، فإن شركة "وان ويب"(OneWeb) ستُطلق 6372، وشركة أمازون 3236 قمراً صناعياً ضمن مشروع(Project Kuiper)، أي أن مجموع الأقمار الصناعية المعلنة على المدى القريب من هذه الشركات فقط سيكون 21611 قمراً صناعياً يُنيرون السماء كالنجوم والشهب والأقمار الطبيعية.

 

فلا شك بأن هذه المصابيح السماوية البشرية تُشكل تحديات للإنسان في مجالات كثيرة جداً، منها أولاً تكوين ظاهرة ومعضلة جديدة للإنسان نفسه، وهي التلوث الضوئي(Light Pollution) الذي ينجم عن هذه الأقمار الصناعية، حسب المقال المنشور في مجلة "نشينال جيوجرافيك" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي من الأقمار الصناعية في كل مكان"، إضافة إلى البحث المذكور سابقاً والمنشور في المجلة الفلكية، حيث توقع البحث بأنه خلال العقود القادمة ستكون نقطة واحدة في السماء من بين 15 نقطة ضوء في الليل هي ليست طبيعية فطرية من الأجرام السماوية، وإنما هي صناعية من تحرك الأقمار والسفن الفضائية وغيرهما.

 

ولهذا التلوث الضوئي سلبيات كثيرة تنعكس على الأبحاث التي يجريها علماء الفلك، كما إنها تؤثر على الذين يستخدمون النجوم في السماء ليهتدوا بها في طريقهم أثناء الليل، إضافة إلى مردوداتها على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية على الأرض وارتفاع مخاطر اصطدام هذه الأقمار بعضها ببعض في المدارات الأرضية.

 

كذلك فإن زيادة أعداد وكثافة هذه الأقمار الصناعية تمثل تحدياً جديداً ثانياً للإنسان وهو المخلفات الفضائية، حيث نشرت "ناسا" تقريراً في 26 مايو 2021 تحت عنوان: "مخلفات الفضاء والسفن الفضائية"، وجاء فيه بأن هناك نحو 27 ألف قطعة من المخلفات الكبيرة في المدارات الأرضية تم الكشف عنها، علاوة على 23 ألف قطعة أكبر من كرة التنس الصغيرة، أو حجمها نحو 10 سنتيمترات في مدارات حول الأرض، إضافة إلى نصف مليون قطعة حجمها نحو سنتيمتر واحد، أو أكبر بقليل، ونحو مائة مليون قطعة حجمها مليمتر واحد فقط.

 

ونظراً لواقعية هذا التحدي وتهديده للأقمار الصناعية والسفن الفضائية الموجودة حالياً وفي المستقبل، فإن هناك جهوداً تُبذل لمواجهتها بشكل جماعي مشترك من جميع المعنيين بالصناعة الفضائية، من الشركات الخاصة والحكومات ومراكز الأبحاث. فعلى سبيل المثال صدر بيان مشترك من الشركات الفضائية يتعهدون فيه بعلاج هذه الظاهرة، والمنشور في 27 مايو 2021 تحت عنوان: "مخلفات الصناعة الفضائية"(Space Industry Debris)، حيث جاء فيه بأن "النمو السريع للاقتصاد الفضائي من المتوقع أن يبلغ تريليون دولار بحلول عام 2030، ولكن هذا النمو تهدده الزيادة في مخلفات الفضاء التي من صنع الإنسان، والتي بلغت مستويات خطرة. فهناك نحو مليون جسيم فضائي أكبر من سنتيمتر واحد في الحجم وتسير بسرعة 27 ألف كيلومتر في الساعة في مدار الأرض، وكل واحدة منها تسبب مخاطر للأقمار والسفن الفضائية. وهذه الأقمار تُقدم خدمات لا غنى عنها للإنسان في كل مكان على سطح الأرض، وهذه المخلفات تهدد استدامة هذه الخدمات وتؤثر على الرحلات الفضائية والمهمات العلمية. ونحن كمجتمع فضائي علينا البدء في حماية مدارات الأرض والتأكد من استخدامها بشكل مستدام وآمن لنا وللأجيال المستقبلية. ولهذا السبب فنحن نؤمن بخفض ومنع، كلما أمكن، أي مخلفات جديدة تنتج عن مهماتنا الفضائية".

 

ولذلك لا بد من الإنسان الذي اخترع وطور وصنع الأقمار الصناعية خدمة للبشرية في قطاعات كثيرة، عليه في الوقت نفسه أن يتعامل بجدية وبسرعة مع تحدياتها السلبية وتداعياتها وتهديداتها للإنسان نفسه ولمكتسباته، سواء من ناحية التلوث الضوئي، أو من ناحية المخلفات الفضائية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق