الخميس، 7 أبريل 2022

البيئة دائماً الضحية الأولى


بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير من العام الجاري، شنَّت الدول الغربية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية عدة حزمة من المقاطعات والعقوبات لروسيا شملت جوانب اقتصادية، وسياسية، ورياضية، وثقافية، ومنها كذلك حظر استيراد النفط والغاز الروسي.

 

ولكن هذه المقاطعة المتمثلة في منع وصول البترول الروسي إلى الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية أدت إلى حاجة هذه الدول الملحة والعاجلة إلى هذا المصدر العتيق للطاقة من دول نفطية أخرى تسد هذا النقص الحاد ولا توقف عجلة التنمية، كما برزت هذه الحاجة من خلال وجود شح كبير ومشهود في هذه الدول لمشتقات البترول، من جازولين السيارات، وديزل الحافلات والشاحنات.

 

وفي الجانب الآخر رأينا ارتفاعاً تاريخياً غير مسبوق في أسعار النفط، إضافة إلى زيادةٍ كبيرة وسريعة في أسعار وقود وسائل المواصلات التي يستخدمها عامة الناس بشكلٍ يومي، مما خلق جواً عاماً من القلق من جهة، ومن الاستياء العام لدى الشعوب من جهة أخرى، وهدد بنزول ظروف اقتصادية صعبة تشمل كافة القطاعات الاقتصادية في هذه الدول.

 

فهذا الوضع الذي ترتب عن الغزو الروسي لأوكرانيا والمقاطعة النفطية الغربية للبترول الروسي، اضطر الرئيس الأمريكي بايدن إلى التدخل لوضع حدٍ لأزمة الطاقة الحادة المشتعلة في الدول المقاطعة، فأمر في 31 مارس 

بسحب مليون برميل يومياً ولمدة ستة أشهر من النفط الخام من المخزون الاستراتيجي الأمريكي الطارئ(Strategic Petroleum Reserve)، أي بإجمالي 180 مليون برميل. وفي الوقت نفسه حث الرئيس الأمريكي شركات النفط الأمريكية العاملة في الأراضي الاتحادية على زيادة استخراج وإنتاج البترول الخام، كما دعا الدول الصديقة والحليفة إلى ضخ ما يتراوح بين 30 إلى 50 مليون برميل.

 

فهذا القرار الأمريكي بضخ البترول في الولايات المتحدة والدول الغربية التي تضررت من هذه المقاطعة، أكدت لي حقيقة تحدثتُ عنها عدة مرات، وهذه الحقيقة تتمثل في أن البيئة وهمومها وشؤونها ليست من الأولويات في كل دول العالم بدون استثناء، فالصدارة في الاهتمام تكون دائماً للجانب الاقتصادي وتحقيق الازدهار المالي على مستوى الحكومات والشركات، ثم الشعوب، كما يؤكد لي هذا القرار بأن البيئة دائماً تسقط الضحية الأولى عند الأزمات والنزاعات، فهي أول فريسة سهلة يتم التضحية بها.

 

فالقرار الأمريكي بسحب البترول من المخزون الاستراتيجي وزيادة الإنتاج النفطي وضخه للسوق يهدف أساساً إلى التحكم في سعر البترول ومنع ارتفاعه إلى مستويات تضر بالاقتصاد وتشل الحركة التنموية، فالمطلوب إذن هو تثبيت الأسعار إلى مستويات مناسبة للدول الغربية أولاً. كما أن قرار بايدن موجه إلى الداخل الأمريكي وله بعدين، سياسي واقتصادي، حيث إنه يرمي إلى خفض أسعار الجازولين المستخدم يومياً كوقود للسيارات والديزل المستخدم في الحافلات والشاحنات، وهذا ينعكس مباشرة على شعبية بايدن ويرفع من صورته الإيجابية أمام الشعب الأمريكي، ويلمع من صفحات إرثه السياسي، كما يزيد في الوقت نفسه من حظوظ فوز الحزب الديمقراطي في انتخابات مجلس الشيوخ في نوفمبر من العام الجاري، فيؤمن الهيمنة الكاملة لحزبه على مفاصل الكونجرس.

 

 فهذا القرار الذي له بعد اقتصادي وسياسي نافع وايجابي على المجتمع الأمريكي والغربي عامة، له في الوقت نفسه بعداً بيئياً سلبياً وسيئاً ينعكس على المدى البعيد على صحة كوكبنا وسلامتنا وسلامة الحياة الفطرية النباتية والحيوانية التي لا حياة بدونها، مما يعني بأن هذا القرار فضل الجانب الاقتصادي على الجانب البيئي، وغلب المال والازدهار المالي على الازدهار البيئي وأمن مكونات البيئة برمتها.

 

فهناك إجماع لدى العلماء حول العالم بأن حرق الوقود الأحفوري، سواء أكان النفط، أو الفحم، أو الغاز الطبيعي في وسائل المواصلات البرية، والبحرية، والجوية، وفي محطات توليد الكهرباء، وفي المصانع، تنبعث عنه ملوثات كثيرة، منها على سبيل المثال غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تسبب في وقوع أكبر كارثة بيئية وصحية وأمنية واقتصادية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وهي التغير المناخي، أو ظاهرة الاحتباس الحراري. فغاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق منذ مئات السنين من مصادر لا تعد ولا تحصى في كل أرجاء العالم يتراكم مع الوقت في طبقات الجو ويبقى في تلك المنطقة سنوات طويلة فيعمل على حبس الحرارة المنعكسة من سطح الأرض، مما يؤدي إلى سخونة كوكبنا ورفع درجة حرارتها، إضافة إلى تداعيات كثيرة أخرى مثل زيادة حموضة البحار، وارتفاع مستوى سطح المحيطات، وزيادة الحرائق، والتغيرات في سلوكيات وأنماط حياة الحياة الفطرية النباتية والحيوانية. فكل هذه الآثار السلبية الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري على الكرة الأرضية برمتها جعل رجال السياسة ورجال العلم يتحدون في وضع التشريعات اللازمة على المستوى الدولي لمكافحة التغير المناخي، وعلى رأسها الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي لعام 1992، ومؤخراً تفاهمات باريس لعام 2015، واتفاقية جلاسجو لعام 2021، إضافة إلى تقرير الأمم المتحدة تحت عنوان: "التقييم السادس للهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي" والمنشور في الرابع من أبريل 2022، والذى دعا إلى التخلص من استخدام الوقود الأحفوري من أجل استدامة عطاء كوكبنا.

 

ففي جميع هذه اللقاءات والتقارير الدولية حول التغير المناخي يتم التركيز على أن تسعى دول العالم أجمع على خفض استخراج وإنتاج أنواع الوقود الأحفوري من باطن الأرض، والعمل على التقليل من استخدامها في وسائل المواصلات، وتوليد الكهرباء، وتشغيل المصانع، إضافة إلى حث دول العالم إلى التوجه التدريجي نحو مصادر الطاقة البديلة النظيفة والمتجددة التي لا تنبعث عنها ملوثات تهدد أمن كوكبنا وتفاقم من ظاهرة التغير المناخي.

 

ولكن هذه التفاهمات الدولية البيئية سقطت بسرعة شديدة عند أول امتحان، وفشلت في التطبيق على أرض الواقع، فقرار بايدن يخالف هذه التوافقات، وهو سحب 180 مليون برميل من البترول الخام المخزن في باطن الأرض، وحرق هذا النفط في السيارات والحافلات والطائرات ومحطات توليد الكهرباء، وبالتالي توليد المزيد من غاز ثاني أكسيد الكربون، المسؤول الرئيس لسخونة كوكبنا ورفع حرارته.

 

فالدول الغربية كان عليها اتخاذ قرار صعب ومعقد وشديد الحساسية، ويتمثل في إما خفض أسعار البترول ومشتقاته من خلال ضخ أحجام كبيرة منه في السوق ونيل مكاسب سياسية آنية، وارتفاع في شعبية الحكومات، وإما حماية البيئة وخفض سخونة الأرض، فكلاهما مهم وحيوي بالنسبة لسكان الأرض. فمن جهة ارتفاع الأسعار يؤدي إلى هلاك الحكومات والشعوب اقتصادياً واستنزاف أموالهم ومدخراتهم، ومن جهة أخرى ضخ المزيد من النفط وحرقه يعني هلاك الأرض وفساد صحة الشعوب والحياة الفطرية التي تعيش معنا، فالإنسان في هذه الحالة فضل الجانب الاقتصادي على الجانب البيئي، وأثبت بذلك أن البيئة تأتي في المراتب الدُنيا من سُلم الأولويات، ويمكن السهولة التضحية بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق