الثلاثاء، 5 أبريل 2022

هل فكرة التنمية المستدامة قابلة للتنفيذ؟

منذ أن بدأ الإنسان الثورة الصناعية والأنشطة التنموية الاقتصادية، وحاجتُه إلى موارد الأرض وثروات البيئة الحية وغير الحية لم تنته أبداً، وإنما تتجه هذه الحاجة نحو التوسع والازدياد في كل عام، وفي كل دولة من دول العالم النامية والمتقدمة، سواء أكانت هذه الخيرات الطبيعية متمثلة في المعادن الموجودة في باطن الأرض، أو أنواع الوقود الأحفوري المخزنة في أعماقها من فحم، وبترول، وغاز طبيعي مصاحب وغير مصاحب، أو ثروة التنوع الحيوي من نباتات وحيوانات لا تُعد ولا تحصى في أنواعها وأعدادها وفوائدها.

 

وهذا النمو الاقتصادي العالمي واعتماده كلياً على موارد وثروات طبيعية موجودة بقَدر واتزان، وبكميات محدودة قد تنبض في أي وقت، إضافة إلى تداعيات هذا النمو على صحة مكونات البيئة من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة وإحداث تغييرات جذرية في سلامتها وقدرتها على العطاء، جعل العلماء والمفكرون يشككون في إمكانية استدامة هذه العمليات التنموية، واستمرارية النمو الاقتصادي بنفس النمط والسرعة التي تسير عليها منذ عقود طويلة من الزمن.

 

فهذا النمط من النمو الذي يَرى فقط بِعَينْ الجانب الاقتصادي وتحقيق الازدهار المالي بسرعة وعلى نطاق واسع، أدى مع الزمن إلى وقوع تدهور شديدٍ وملحوظ على عناصر البيئة من الناحيتين النوعية والكمية، فانكشفت مظاهر ومشكلات بيئية ذات وقعٍ كبير على استدامة كوكبنا في العطاء والإنتاج، مثل انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون العليا فوق سطح الأرض، وانكشاف ظاهرة التغير المناخي وارتفاع حرارة كوكبنا، والتدهور المشهود في التنوع الحيوي بشقيه النباتي والحيواني، وكل هذه المشكلات العامة انعكست في الوقت نفسه على الأمن الصحي للإنسان، وأنزلت عليه الأمراض والأسقام المستعصية التي لم يعرفها من قبل.

 

ولذلك نبه بعض المثقفين العلماء من هذا النمط الإلحادي الجانب في النمو، وحذروا من عدم قدرته على الاستدامة والعطاء فترة طويلة قادمة من الزمن. فهناك كتاب نشره علماء جامعة أمريكية عريقة هي "معهد ماساشوستس للتكنلوجيا" في عام 1972 تحت عنوان: "الحدود للنمو"، حيث تنبأ الكتاب بأن هذه الوتيرة المتسارعة للنمو الاقتصادي والسكاني على المستوى العالمي سيؤدي إلى نضوب موارد الأرض المحدودة نوعياً وكمياً، ويسبب سقوطاً للاقتصاد العالمي بحلول عام 2070، كما يفيد الكتاب بأن أنشطة الإنسان أصبحت لها تداعيات مزمنة، أي أن التدمير الذي تحدثه انبعاثات المصانع وأنشطة الإنسان الأخرى على البيئة دائمة ولا يمكن إرجاع البيئة إلى وضعها الطبيعي الفطري الذي خلقه الله. كما أكد على استنتاجات الكتاب، المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" في 16 مارس 2022 تحت عنوان :"هل هناك حدود للنمو الاقتصادي؟"، حيث أكد المقال على الحاجة إلى إعادة الحوار حول قضية أنماط النمو الاقتصادي، وما هي أنسب الطرق لإدارة الموارد والثروات الطبيعية لكوكبنا؟

 

وفي عام 1987 نُشر تقرير "برونتلاند" الشهير تحت عنوان "مستقبلنا المشترك"، حيث قدَّم فكرة جديدة للتنمية والنمو الاقتصادي العالمي واُطلق عليها التنمية المستدامة، وهي التنمية المقيدة والمنضبة التي تُلبي احتياجات البشر في الوقت الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على الوفاء باحتياجاتها التنموية، أي أن هذه التنمية من المفروض أن تحقق العدالة التنموية بين الجيل الواحد من جهة، وبين الأجيال من جهة أخرى. ولتحقيق هذه الفكرة لا بد من أي مشروع تنموي أن يُحقق التنمية في الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانبين البيئي والاجتماعي، فهي تنمية شاملة ومستدامة، وحل توافقي معتدل وعادل لكل المشاريع التنموية، فلا يطغى أي جانب على الجانب الآخر. وهذه الفكرة الجديدة للتنمية دخلت جدول أعمال دول العالم في قمة ريو دي جانيرو عام 1992، وتمت الموافقة عليها رسمياً من قبل دول العالم.

 

 ولكن السؤال الذي أطرحه هو: "هل هذه الفكرة النظرية قابلة للتطبيق في واقعنا المعقد والمتشابك والمتغير؟ أم أن هذه الفكرة تحولت الآن فقط إلى شعار براق يرفعه كل دول العالم دون القدرة الحقيقية على تنفيذه؟

 

ففي تقديري، ومن خلال متابعاتي للأنشطة التنموية التي تقوم بها مختلف دول العالم عبر العقود الماضية، فإنني أجد بأن هذه الفكرة غير عملية من ناحية التطبيق، وتصطدم بمعوقات وصعوبات كثيرة تجعلها كالفكرة النظرية المثالية الجميلة التي يحلم بها الإنسان ويتمنى تنفيذها عند القيام بأي مشروع تنموي.

 

وأُقدم لكم مثالاً واحداً فقط من الواقع الحالي اليوم الذي يبين الحواجز التي تقف حجر عثرة أمام تنفيذ مبادئ التنمية المستدامة. فبعد أن تسببت أنشطة الإنسان التنموية من المصانع ووسائل الموصلات وتوليد الكهرباء في نزول كارثة التغير المناخي والتي من تداعياتها سخونة الأرض، يبذل الآن الإنسان نفسه مجهوداً كبيراً في إيجاد الحلول المستدامة لإيقاف هذه التداعيات العصيبة التي تنكشف يوماً بعد يوم، وتقليل تأثيراتها على كوكبنا والصحة العامة.

 

فمن هذه الحلول التحول من استخدام الوقود الأحفوري الناضب والملوث للبيئة في جميع القطاعات إلى أنواع الوقود المتجددة والنظيفة، ومن هذه القطاعات المواصلات، وبخاصة السيارات، حيث اقترح الإنسان الانتقال إلى السيارات الكهربائية بدلاً من السيارات التي تشتغل بمشتقات النفط والغاز الطبيعي. ومن أهم أركان السيارات الكهربائية هو البطارية والتي من مكوناتها الرئيسة هي المعادن مثل الليثيوم الذي يُطلق عليه بالذهب الأبيض والكوبلت، وكلاهما يشكلان الآن النفط الجديد القادم. ولذلك هناك صراع دولي محتدم ومتسارع على الاستيلاء على منابع هذين العنصرين بشكلٍ خاص، والعناصر الأخرى التي تدخل في صناعة بطارية السيارات الكهربائية في الدول التي أنعم الله عليها بهذه الثروة الجديدة. وفي الوقت نفسه هناك سباق شديد، وتنافس حاد على سرعة استخراج وإنتاج هذين المعدنين من باطن الأرض، وبأية طريقة سهلة ورخيصة، لكي يستطيع الإنسان سريعاً من مواكبة وملاحقة حاجة المليارات من البشر لسيارات المستقبل، ولكي تتمكن الشركات العملاقة من الاستحواذ بسوق السيارات والسيطرة عليها كلياً، والهيمنة على سوق بيعها حول العالم بأسعار تنافسية لا تُرهق كاهل المستهلك.

 

وأثناء قيام الإنسان بهذه العملية فإن الهموم البيئية تسقط إلى الوراء ويتم غض الطرف عنها، فتصبح مكونات البيئة هي الضحية الأولى والفريسة السهلة لهذه العملية التنموية، فيتجاهل الإنسان أركان التنمية المستدامة، وبالتحديد الركن البيئي الذي يدعو إلى القيام بعمليات التنجيم عن المعادن دون الإضرار بصحة مكوناتها، فيكون التركيز، والأعين متجهة نحو النمو الاقتصادي السريع والكبير وتوفير هذه المعادن لمصانع السيارات مهما كلَّف الثمن البيئي.   

 

ففكرة التنمية المستدامة تسقط عملياً في مثل هذه الحالات، وتكون الأولوية عند متخذي القرار في الحكومات والشركات العملاقة المحتكرة والتي تلهث فقط وراء الربح السريع والكبير، هي إشباع العملية الإنتاجية للسيارات الكهربائية بأسرع وقت وبأكبر عدد، وتحقيق النمو الاقتصادي والازدهار المالي.

 

وهنا في تقديري يأتي النفاق البيئي، فالإنسان يدَّعي بأن الهدف من إنتاج السيارات الكهربائية هو أساساً تحقيق التنمية البيئية المستدامة وحماية البيئة، وبالتحديد حمايتها من تداعيات قضية التغير المناخي وارتفاع حرارة كوكبنا، ولكنه في الوقت نفسه وفي الجانب الآخر يستنزف ويفرط في استخراج واستخدام الموارد والثروات الطبيعية الناضبة، ويعكر عند القيام بذلك صفو ونقاوة المكونات البيئية من ماءٍ وهواء وتربة، إضافة إلى تدمير الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، مثل التأثير على تكاثر ونمو وتغذية الفلامنجو الذي يعيش بالقرب من منجم الليثيوم في شيلي، حسب الدراسة المنشورة في التاسع من مارس 2022 في مجلة وقائع الجمعية البريطانية الملكية(Proceedings of the Royal Society B)، تحت عنوان: "التغير المناخي والتنجيم عن الليثيوم يؤثران على حجم الفلامينجو في مثلث الليثيوم".

 

والأمثلة من مختلف دول العالم كثيرة، وكلها تشير إلى أن التوفيق العادل، والمساواة بين متطلبات حماية البيئة واحتياجات النمو الاقتصادي معادلة معقدة يصعب تحقيقها في معظم الحالات، ولذلك فإن فكرة التنمية المستدامة تحولت في أغلب الأحيان إلى شعار دعائي للحكومات لتُحسِّن من سُمعتها وصورتها، وترفع من قدرها ومكانتها البيئية بين الأمم والشعوب.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق