الاثنين، 18 أبريل 2022

المخلفات البلاستيكية احْتَلتْ أجسامنا


التهديد الذي اكتُشفَ حديثاً للمخلفات البلاستيكية لا يكمن فقط في غزوها لكل أرجاء بيئتنا من ماءٍ وهواء وتربة، بعيدة كانت أم قريبة من الأنشطة البشرية، كما أن التهديد الجديد لا يكمن أيضاً في ولوجها في أجسام الكائنات الفطرية الحية في البر، والبحر، والجو، وإنما خطورة هذه المخلفات الحقيقية، وتهديداتها العقيمة تتمثل في اكتشافها مؤخراً في مختلف أعضاء أجسامنا، فهُنا يكمن التهديد الرئيس والمخيف والمزمن، والذي يستحق منا وقفة تأمل جادة، ويحتاج في الوقت نفسه إلى تدخل سريع من الدول، والاهتمام بها كقضية بيئية وصحية ذات أولوية، والعمل على إيجاد الحلول السريعة للتخلص منها في عناصر بيئتنا الحية وغير الحية، وفي كل عضو من أجسادنا.

 

أما بالنسبة لمكونات بيئتنا أولاً، فهذه المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم والميكروبلاستيكية المتناهية في الصغر، قد أصبحت اليوم جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من كل مكونات البيئة في كل أنحاء العالم، وهناك كم كبير من الدراسات الميدانية التي اكْتَشفتْ ووثقت وجودها في هذه البيئات الحية وغير الحية. 

 

أما بالنسبة للكائنات الفطرية الحية التي تعيش معنا، فهناك عشرات الآلاف من الأبحاث الميدانية التي اكتشفت مخلفات بلاستيكية صغير وكبيرة الحجم في الكائنات التي تعيش في البر وفي المسطحات المائية والطيور.

 

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نَشرتْ وسائل الإعلام الإمارتية خبراً في السابع من فبراير 2022 عن موت عشرات السلاحف من نوع(hawksbill) والسلاحف الخضراء من نوع(loggerhead)في سواحل كلبه وخورفكان في الشارقة في الساحل الشرقي من دولة الإمارات العربية المتحدة بسبب أكلهم للمخلفات، وبالتحديد المخلفات البلاستيكية بمختلف أحجامها التي تسد الجهاز الهضمي والمعدة وتسبب لها الجوع القاتل، حسب المنشور في مجلة "تلوث البحر"(Marine Pollution Bulletin).

 

وأما بالنسبة لمكونات البيئة غير الحية فقد اكتشفت هذه المخلفات البلاستيكية في كل شبرٍ صغير أو كبير من كوكبنا، وفي كل شبرٍ قريب أو بعيد من المدن الحضرية، وفي مواقع نائية عذراء لا تخطر على بال إنسان، ولا يفكر أحد بوجود مثل هذه المخلفات.

 

فقد تم اكتشاف المخلفات البلاستيكية في الثلج في القطب الشمالي والجنوبي لأول مرة، حسب المنشور في "مجلة أبحاث البيئة"(Environmental Research) في 15 مايو من العام الجاري تحت عنوان:" قياس النانوبلاستيك في الثلج في القطبين الشمالي والجنوبي". فقد أكدت الدراسة عن وجود جسيمات بلاستيكية مجهرية متناهية في الصغر بتركيز تراوح بين 13.2 و 52.3 نانوجرام من النانوبلاستيك في المليلتر من الثلج المنصهر في جزيرة جرينلاند، وعلى عمق 14 متراً. وهذه المخلفات البلاستيكية كانت من نوع البولي إيثلين(polyethylene) الذي يستخدم في صناعة الأكياس والبلاستيكية، ومن نوع بولي إيثيلين تراباثاليت(polyethylene terephthalate (PET)) المستخدم في عبوات المياه والملابس، إضافة إلى جسيمات إطارات السيارات. فاكتشاف هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة في تلك المنطقة البكر النائية يؤكد بأن هذه المخلفات حملتها الرياح من المدن الحضرية، وطارت بها مسافات طويلة جداً في رحلة ماراثونية حتى حطَّت رحالها ونزلت في ثلوج القطبين. كذلك نُشرت دراسة في مجلة "تقنية وعلوم البيئة" في 28 نوفمبر 2021، تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في بحر ودل(Weddell Sea) في القطب الجنوبي في المحيط الجنوبي"، حيث وثقت الدراسة مشاهدة 770 قطعة بلاستيكية، إضافة إلى اكتشاف المخلفات الميكروبلاستيكية في عينات المياه السطحية وتحت سطح الماء.

 

وعلاوة على ذلك كله، فقد اكتشفت دراسات أخرى هذه المخلفات في أعلى قمة فوق سطح الأرض، وهي قمة إيفرست المشهورة، وفي أعمق موقع تحت سطح البحر في خنادق المحيطات الهادئ على عمق أكثر من عشرة كيلومترات في خندق ماريانا(Mariana Trench (MT))، إضافة إلى اكتشاف هذه المخلفات في أجسام الكائنات البحرية التي تعيش هناك في البرد القارس، والظلام الداكن.

 

وكل هذه الدراسات لا تُشكل قلقاً شديداً فورياً، ولا تمثل هماً مزمناً مرعباً ومباشراً، إلا إذا علمنا وتحققنا بأن هذه المخلفات البلاستيكية التي اكتشفت في جميع البيئات الحية وغير الحية لن تبقى هناك خالدة مخلدة إلى الأبد، وإنما تتحرك وتنتقل بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن إلى أجسادنا عن طريق الفم باستهلاك مواد غذائية ملوثة بالمخلفات الميكروبلاستيكية، أو عن طريق الأنف باستنشاق الهواء الملوث بها، فهنا يكمن الخطر ويجب أن نقلق كثيراً، وهنا يجب أن نهتم بشدة بمصير هذه المخلفات عندما نطلقها في بيئتنا، وهذا ما حدث بالفعل في الواقع.

 

فقد اكتشفت المخلفات البلاستيكية في بُراز الإنسان، مما يعني أننا أكلنا مواد غذائية، أو شربنا مياهاً كانت تحتوي على البلاستيك، كما اكتشفت في لعاب الإنسان وفي الجزء العلوي من الجهاز التنفسي مما يعني أننا استنشقنا مخلفات بلاستيكية من الهواء الجوي، حسب دراسة عنوانها: "تحليل الميكروبلاستيك في الإنسان" ومنشورة في مجلة تقنية وعلوم البيئة، في 24 يناير 2022، إضافة إلى اكتشافها في خلايا مخ الإنسان، وفي أنسجة مشيمة المرأة الحامل.

 

كذلك نُشرت دراسة تحت عنوان: "اكتشاف وتحليل التلوث بجسيمات البلاستيك في دم الإنسان" في 24 مارس 2022، في مجلة "البيئة العالمية"(Environment International)، حيث أجرت الدراسة تحليلاً مخبرياً لـ 22 عينة دم، ووجدت بأن معدل تركيز المخلفات الميكروبلاستيكية 1.6 ميكروجرام من البلاستيك في المليمتر من دم الإنسان، وهذه المخلفات البلاستيكية كانت من نوع البولي إيثلين، والبولي بروبلين، وبولي إيثيلين تراباثاليت، وبولي ستيرين. وهذه الدراسة تؤكد بأن المخلفات البلاستيكية دخلت أجسادنا وأصبحت تسبح بكل راحة وحرية في مجرى دمائنا، فتصل إلى كل خلية من خلايا أجسامنا.

 

وعلاوة على ما سبق، فهناك دراسة منشورة في مجلة "علم البيئة الكلية"( Science of the Total Environment) في العشرين من يوليو 2022 حول اكتشاف الميكروبلاستيك في رئة البشر، تحت عنوان: "اكتشاف الميكروبلاستيك في أنسجة رئة الإنسان"، حيث وجد الجراحون لعمليات الرئة جسيمات البلاستيك بحجم 3 ميكرومترات مدفونة في أعماق أنسجة الرئة السفلية في رئة 11 مريضاً من أصل 13 عينة، مما يؤكد بأن الإنسان يستنشق هذه المخلفات من مصادرها المتعددة ولها القدرة على تخطي الحواجز الموجودة في الجهاز التنفسي العلوي والانتقال والمكوث في الجزء السفلي والتراكم فيه يوماً بعد يوم.

 

والآن بعد كل هذه الدراسات المتطابقة في نتائجها، باتت الصورة الشمولية تتضح لدي سنة بعد سنة بالنسبة للتلوث البلاستيكي، فأستطيع الآن أن أضع معالم وخطوط "دورة البلاستيك" في البيئة، كدورة الكربون والنيتروجين وغيرهما. والخلاصة من دورة البلاستيك بأن كل المخلفات البلاستيكية التي نُلقيها اليوم في بيئتنا دون أن نبالي، فإنها ترجع إلينا ولو بعد حين وتدخل في أعضاء أجسامنا وفي كل خلية من خلايانا.

 

والآن المرحلة القامة من الأبحاث العلمية ستتجه نحو الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي الأضرار الصحية التي تنجم عن تراكم المخلفات البلاستيكية في أعضاء أجسامنا؟

وما هي الأمراض التي تُسببها لنا في المستقبل؟ وهل هناك علاقة بين وجود هذه المخلفات الميكروبلاستيكية في أعضائنا واحتمال الإصابة بالسرطان؟

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق