الخميس، 21 أبريل 2022

التداعيات البيئية للحرب الروسية الأوكرانية


هناك تداعيات ومردودات كثيرة للحروب والنزاعات العنيفة، منها ما هو مباشر وقريب المدى وواضح للعيان من الأقمار الصناعية التي تُصور من أعلى كل دقيقة لمجريات الأحداث، إضافة إلى النقل المباشر على الأرض على مدار الساعة.

 

ومظاهر هذه الحروب وصورها لا يمكن أن تخفى على أحد، فالجميع يراها رأي العين ويسمعها مباشرة من ميدان القتال، مثل الحرق والتدمير الشامل للمباني والجسور والطرق والأنفاق، والنزوح الجماعي للناس من منازلهم ومواقع سكنهم إلى الملاجئ وإلى خارج دائرة الصراع والمعارك الجارية.

 

ومثل هذه التداعيات المباشرة المرئية تحكي عن نفسها بنفسها من المشاهد المحزنة والكئيبة المنقولة على الناس أجمعين، دون الحاجة إلى من يفسرها، أو يشرح تفاصيلها، ويبين آثارها وآلامها ومعاناتها. ولكن هناك في الوقت نفسه تداعيات خفية وصامتة تنجم مباشرة عن الحروب أيضاً، ولكن لا ينقل أحد معاناتها وآلامها والأضرار الجسيمة التي تلحق بها، فهي لا تستطيع أن تعبر عن نفسها، أو أن تسرد وتروي قصتها مع الحرب الدائرة، فهي من الضحايا الصامتة والمنسية عند قيام الحروب، ويتم تجاهلها وغض الطرف عنها كلياً لأنها لا تمثل أولوية أثناء اشتعال المعارك واستمرارها. وهذه الضحايا الصامتة تتمثل في القضاء على البيئات الطبيعية في البر والبحر والجو، وتدمير المتنزهات والحدائق العامة والغابات والمحميات الطبيعية، وإلحاق الضرر الكمي والنوعي للحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني التي تعيش في هذه البيئات.

 

فكلفة الحروب على البيئات والحياة الفطرية تكون عادة كبيرة ومباشرة وتأثيراتها قد تكون بعيدة المدى، وفي بعض الأحيان لا يمكن إعادة البيئة التي تدمرت، وعبث فيها الإنسان بسبب الحروب إلى طبيعتها وفطرتها الأصلية، مهما أنفق الإنسان من مال على جهود الإصلاح وإعادة التأهيل والبناء.

 

ففي هذه الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا لا بد وأن تكون هناك مفاسد كبيرة وضخمة قد لحقت بالبيئات والمحميات الطبيعية حتى يومنا هذا، وحالياً يمكن أن أضرب مثالاً واحداً فقط بدأت معالمه ومشاهده تتضح يوماً بعد يوم، وهو "محمية الكرة الحية في البحر الأسود"( Black Sea Biosphere Reserve). فهذه المحمية الطبيعية الفريدة من نوعها على المستوى العالمي، تتميز بأنها محطة "ترانزيت" يمر عليها عشرات الآلاف من الطيور المهاجرة، فيقضُون فترات الشتاء الباردة في سواحلها وأراضيها الرطبة الدافئة والثرية التي تمتد مساحات شاسعة، إضافة إلى بعض أنواع الطيور النادرة المستوطنة والمقيمة في هذه المحمية، كذلك هناك عشرات الأنواع من الكائنات البحرية المهددة بالانقراض والفريدة من نوعها والنادرة على المستوى الدولي. واليوم هذه المحمية الطبيعية تم احتلالها عسكرياً، وتحولت إلى ثكنة عسكرية للجيش الروسي وقاعدة عسكرية مؤقتة تتحرك عليها الآليات والمعدات الثقيلة التي تدمر التربة وتغير من صفاتها وهويتها الفطرية، كما تنطلق من هذه المحمية الصواريخ الحارقة والملوثة للهواء الجوي.

 

فلا يعلم أحد ماذا سيحدث لمواقع تكاثر ونمو وتغذية هذه الطيور والكائنات البحرية الأخرى بسبب هذه الأعمال العنيفة غير المبالية بحماية المحمية ورعاية كائناتها الفطرية، ولا يمكن لأحد أن يتوقع ما هي التغييرات السلبية التي ستطرأ عليها، ولا يعلم أحد ما هي البصمات التي يتركها هذا الجيش على هذه المحمية، وهل ستكون هذه البصمات عميقة ودائمة ولا يمكن إصلاحها، أم ستكون أضراراً خفيفة وبسيطة يمكن إصلاحها وإعادة بنائها مرة ثانية بعد أن تتوقف أصوات المدافع والقنابل، ويرجع الجنود إلى ثكناتهم.

 

وهناك العديد من الدراسات التي وثقتْ ميدانياً الأضرار الجسيمة التي تُوقعها الحروب في أي مكانٍ كانت وفي أي زمن على بيئة المحميات والحياة الفطرية. فهناك دراسة، على سبيل المثال، نُشرت في مجلة "الطبيعة" في العاشر من يناير 2018 حول الحروب وتدهور الحياة الفطرية في المناطق المحمية في أفريقيا في الفترة من 1946 إلى 2010، حيث توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ عام هو أن أعمال العنف والنزاعات أدت إلى خفض أعداد الكائنات الحية التي تعيش في المحميات الطبيعية، والتي كانت أرضاً للقتال، وتدور فيها المعارك المدمرة والمهلكة. وعلاوة على هذا البحث، فهناك دراسات كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها حول تأثير الغزو الأمريكي العقيم لفيتنام على بيئة الغابات الطبيعية والمحميات العذراء البكر، والذي تمثل في عدة صور ومشاهد، منها التدمير الفوري المباشر لمساحات شاسعة من الأشجار والأعشاب والحياة الفطرية الحيوانية، ومنها تلوثها لسنوات طويلة بالعميل البرتقالي، وهو مبيد سام للأعشاب تم رش الملايين من الجالونات منه على هذه الأدغال الطبيعية، فلوث البر، والبحر، والجو، والإنسان، والحياة الفطرية حتى يومنا هذا. وهناك الحروب المؤسفة التي شهدناها في منطقة الخليج فلوثت الهواء، والبشر، والأحياء النباتية والحيوانية، مثل حرق الآلاف من الآبار النفطية التي بلغت ملوثاتها إلى جبال الهيمالايا وأصابت الناس بأمراض الحساسية والربو، إضافة إلى استخدام قنابل وذخائر وقود اليورانيوم المستنفد التي تسببت في ولادة أجنة مشوهة ومعوقة وزادت من الإصابة بأمراض السرطان. وفي الوقت نفسه هذه الحروب سممت مياه الخليج بالتلوث النفطي، إضافة إلى تدمير التربة الصحراوية وتفكيك وتبعثر التربة السطحية نتيجة للتحرك الكثيف لآلاف الآليات الحربية الضخمة والثقيلة، فجعلت التربة أكثر عرضة وبسهولة لحركة الرياح، وسقوط الرياح الرملية، والرياح المحملة بالغبار في دول الخليج.

 

كذلك بالنسبة لحرب روسيا وأوكرانيا فهناك الجانب الصامت والمنسي الآخر المتمثل في تلوث الهواء الجوي عن طريق الحرائق التي تنشب في محطات الوقود ومخازن الذخائر التي يتم استهدافها، حيث تنبعث منها ملوثات كثيرة، منها مواد مسرطنة كالدخان الأسود، أو الجسيمات الدقيقة، إضافة إلى الملوثات الكيميائية السامة والخطرة. وعلاوة على ذلك، فلا بد من التنبيه إلى جانب خطر جداً وقاتل، ليس له تداعيات على منطقة الحرب فحسب، وإنما على الكرة الأرضية جمعاء. ففي أوكرانيا 15 مفاعلاً نووياً في أربع محطات لتوليد الكهرباء، فماذا سيحدث لو ضُربت هذه المفاعلات؟ فهل سنشهد تشرنوبيل ثانية، أم فوكوشيما أخرى، فتتسرب وتنطلق الملوثات المشعة إلى الهواء الجوي وتبقى خالدة مخلدة في بيئتنا وفي أجسامنا؟ كذلك هناك احتمال تعرض مواقع دفن وتخزين المخلفات المشعة، أو ما أُطلق عليها قنابل الدمار الشامل الموقوتة التي تنجم عن المفاعلات النووية، فتنبعث منها مباشرة إلى الهواء الجوي كافة أنواع الملوثات المشعة المسببة للسرطان. وعلاوة على ذلك كله فهناك التهديدات التي قد تنجم عن القصف المتعمد، أو بالخطأ لمختبرات ومراكز أبحاث القنابل البيولوجية الموجودة في أوكرانيا، والتي كشفت روسيا النقاب عنها في جلسة مجلس الأمن في 15 أبريل من العام الجاري، فلا أحد يستطيع تكهن وتقدير المخاطر التي تنجم عن تسرب وانبعاث هذه الجراثيم والميكروبات القاتلة إلى الهواء الجوي؟

 

فخلاصة القول فإن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كما هي بالنسبة لأي نزاع عنيف، أو معارك قاتلة، أو حروب شرسة فإنها لا تبقي ولا تذر، وتهلك الحرث والنسل، ولكن بيئتنا والحياة الفطرية فيها تكون هي دائماً الطرف الأضعف الصامت والمنسي الذي لا يهتم بها أحد عندما تدور رحى الحرب وتشتد المعارك ضراوة. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق