الجمعة، 10 أغسطس 2012

العميل البرتقالي يُلاحق أمريكا



العملاء يموتون ويفنون بعد حينٍ من الزمن مهما طال، ولكن العميل البرتقالي مُخلدٌ وحي لا يموت. فهذا العميل عليه بصمة الولايات المتحدة الأمريكية، فهو من إنتاج أمريكي وصناعة أمريكية خاصة، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي استغلت هذا العميل أثناء حرب فيتنام.       

فأمريكا ممثلة في إدارة مشاريع الأبحاث المتطورة التابعة لوزارة الدفاع، وبالتحديد مركز أبحاث المواد الكيميائية والحيوية للجيش ، شرعت في مطلع الستينيات من القرن المنصرم بتنفيذ مشروعٍ سري أُطلق عليه مشروع أجيل، يهدف إلى تطوير طرق ووسائل متطورة ومبتكرة، واختراع أسلحة غير تقليدية  يمكن استخدامها في الحرب لمواجهة المد الشيوعي في فيتنام ودول آسيا الشرقية.

ومن الوسائل المبتكرة التي اكتشفتها أمريكا هي إنتاج مبيدات خاصة بالقضاء على الأعشاب والحشائش التي تنمو في الغابات ويلجأ إليها المقاتل الفيتنامي ويختبئ فيها، وحسب نوعية كل مبيد قام الجيش بوضع أشرطة ذات ألوانٍ مختلفة على البراميل التي تحتويها، كاللون البرتقالي للعميل البرتقالي، واللون الوردي، والأخضر، والأبيض، والأزرق. وفي عام 1962 قامت بتجربة المبيد الحشري الذي اشتهر اسمه بالعميل البرتقالي في مستعمرة جزيرة أوكيناوا اليابانية، وبخاصة في الغابات والأدغال الواقعة شمال الجزيرة بالقرب من قرية(Kunigami and Higashi) لأنها مناطق وبيئات استوائية تشبه البيئة الفيتنامية. وبعد نجاح التجربة دشَنَّتْ أمريكا رسمياً عملية رانش هاند، وهي رش غابات فيتنام وكمبوديا ولمدة عشر سنوات بهذه المبيدات، حيث تم استخدام قرابة 76 مليون لتر منها بالرش اليدوي، أو بالشاحنات، أو بالطائرات المروحية وغير المروحية، أو السفن.

ولكن هذا العميل البرتقالي لم تنته مهمته في القضاء على غابات فيتنام، وإنما تحول إلى لعنةٍ تطارد الأمريكيين وكابوسٍ مرعب يلاحقهم منذ ذلك الوقت وحتى كتابة هذه السطور، وسيظل يجثم فوق صدورهم إلى ما شاء الله. فما قامت به أمريكا بالشعب الفيتنامي ارتد عليها بشكلٍ مباشر وانكشف في جانبين رئيسين. أما الجانب الأول فهو إصابة كل جندي تورط في استخدام هذا العميل بمرضٍ عضال لا يُرجى شفاؤه من أمراض السرطان والأمراض الأخرى الغريبة. فكل جندي قام بفتح البراميل البرتقالية، أو حملها، أو نقلها، أو شحنها، أو فتحها، أو رش المبيد على الغابات، أو نقل مخلفات هذه البراميل بعد استعمالها، أو دفنها، تعرض مباشرة لهذه الأمراض المستعصية التي عانى منها طوال سنوات حياته، فأصابته لعنة استخدام هذا العميل.

أما الجانب الثاني فهو قضائي ويتمثل في آلاف القضايا المتعلقة بالعميل البرتقالي والمرفوعة ضد الحكومة الأمريكية، في أمريكا نفسها ومن الجنود الأمريكيين أنفسهم، وفي فيتنام من الشعب الفيتنامي، وفي اليابان، وبالتحديد من سكان جزيرة أوكيناوا، وهذه القضايا ستلاحق أمريكا أيضاً لسنواتٍ طويلة قادمة.

فأمريكا عندما أنتجت هذا العميل، قامت بنقله إلى ميناء وايت بيتش في أوكيناوا اليابانية في عدة سفن مَدنية منها سفينة(SS Schuyler Otis Bland)، ثم نقلها إلى أرض المعركة في فيتنام، وبعد الانتهاء من استعمالها نُقلت مرة ثانية إلى جزيرة أوكيناوا ودفنت في مواقع محددة في جنح الليل وبسرية تامة. وهذا التاريخ المظلم، وهذه الجريمة النكراء التي ارتكبت في صمتٍ وخفاء في حق سكان الجزيرة، انكشفت هذا العام الجاري، أي بعد خمسين عاماً، وبدأت خيوطها تنفضح يوماً بعد يوم. فقد نشرت صحيفة(Japan Times) عدة تقارير وثائقية آخرها في 17 مايو 2012 و 15 يونيو 2012 ، كما نشرت صحيفة(Japan Daily Press) في 28 يونيو 2012، وتؤكد جميعها على قيام أمريكا بالتجارب الميدانية للعميل البرتقالي في جزيرة أوكيناوا قبل نقله إلى فيتنام، إضافة إلى دفن هذه البراميل السامة بعد الانتهاء منها، والتي هددت حياة السكان بالخطر الشديد طوال العقود الماضية، ومازالت قنبلة موقوتة لم تنفجر بعد في وجه أمريكا.

وبالرغم من هذه الأدلة المحسوسة والوثائق المعتمدة وشهادات الجنود الأمريكيين الذين عملوا في أوكيناوا وقاموا بتفريغ شحنة العميل البرتقالي ودفنه، إلا أن أمريكا لم تعترف حتى الآن بنقل ودفن العميل البرتقالي في أراضي جزيرة أوكيناوا، ولذلك فالصراع الدبلوماسي والقضائي والصحي سيحتدم أكثر بين اليابان وأمريكا لكشف أسرار هذه القضية، وسيلاحق هذا العميل أمريكا نفسها التي قامت بإنتاجه واستخدامه ضد الآخرين، ولن تستطيع التخلص منه وتصفيته، كما تفعل في هذه الحالات بالعملاء الذين تنتهي صلاحيتهم ودورهم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق