الجمعة، 24 أغسطس 2012

ظاهرة نُفوق القطط



لو كان الموضوع يخص نفوق بعض القطط في منطقة البسيتين في البحرين، ما أعطيت أي اهتمام في الموضوع، وما كتبت عنه، فأعداد القطط في معظم مدن وقرى البحرين كثيرة وهي تسبب مشكلة بيئية تتمثل في شق أكياس القمامة ونثر المخلفات بداخلها، أو الولوج في أعماق الحاويات وبعثرة المخلفات في الطرقات، إضافة إلى أنها تسبب إزعاجاً للمواطنين، فلذلك موت بعض هذه القطط هو من الأمور المطلوبة لتقنين أعدادها وخفض تأثيراتها على النظافة العامة في الشوارع والطرقات، ولكن نفوق القطط بالنسبة لي يعتبر مؤشراً حيوياً على وجود خللٍ ما في البيئة، واكتشاف ومشاهدة هذه الظاهرة غير طبيعية وغير المألوفة للناس تعني ضرورة النظر فيها بعمق وتشخيصها وتحليل أسبابها، فقد تكون هذه الظاهرة كشفاً لمشكلة بيئية وصحية خطيرة قد تصيب الإنسان.

فأي خللٍ في الظواهر البيئية المألوفة والتي تعودنا على رؤيتها آلاف السنين، تعني أن طامة كبرى ستنزل علينا، وأن هناك مشكلة من نوعٍ ما ستصيبنا. فارتفاع درجة حرارة الأرض هي ظاهرة بدأنا نراها ونستشعر بها منذ أكثر من عشرين عاماً، وهذه الظاهرة البسيطة تحولت الآن إلى أكبر معضلةٍ دولية تصيب البشرية، حتى أن رؤساء دول العالم اجتمعوا عدة مرات لمناقشة هذه الظاهرة، وإيجاد الحلول الناجعة لها، كذلك التغير في مواسم هجرة الطيور، أو التغير في أوقاتها هي أيضاً ظاهرة تعني وقوع مشكلة بيئية من نوعٍ ما لا ندري تفاصيلها حتى الآن، وتفتح الأزهار أو سقوط أوراق الأشجار في غير موعدها هي أيضاً ظاهرة تنذر بوقوع معضلة بيئية خطرة، وهكذا بالنسبة لأي تغيرٍ يحدث في الظواهر البيئية التي ألفنها وشاهدها آباؤنا من قبل.

وظاهرة نفوق القطط أيضاً هي قد تعني وجود خللٍ ما في البيئة، وهذا الخلل قد يتعدى القطط فيضرب بالبشر.

وفي الحقيقة فإنني عندما قرأت الخبر المنشور في جريدة أخبار الخليج في 20 أغسطس تحت عنوان "مرض غامض يقتل القطط في البسيتين"، حيث جاء فيه أن بعض القطط لقيت حتفها فجأة بعد أن ظهرت عليها الضعف والهزال في جسمها وأصبحت حركتها بطيئة لا تستطيع الوقوف فتسقط بعدها ميتة.. فإن هذا الخبر أيقظ عندي خبراً قد كتبت عنه مراراً، وأحيى في ذاكرتي المآسي البشرية التي وقعت عندئذٍ، فالخبر يحكي قصة أعظم كارثة بيئية وصحية وقعت في اليابان، بل وفي العالم المعاصر برمته. فالمشهد الأول للخبر يشابه نفوق القطط في البسيتين، حيث لاحظ سكان قريةٍ واقعةٍ على البحر في مدينة ميناماتا في اليابان في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم ظاهرة غريبة انكشفت على القطط في القرية، حيث إنها كانت تقوم بحركات ملفتة للنظر فتدور حول نفسها وتتعثر في مشيتها وكأنها سكارى، ثم تسقط فجأة وتموت، حتى أن سكان القرية أطلقوا عليها برقص القطط، ولم تدم هذه الظاهرة طويلاً حتى بدأت الطامة الكبرى تنزل على سكان القرية عندما شاهدوا أعراضاً مرضية غريبة تصيب الناس، مثل الحمى، وعدم القدرة على الحركة، والشلل الكلي ثم الموت، حتى مات الآلاف منهم، ومرض عشرات الآلاف، مما حيَّر الأطباء والباحثين، وأدخل اليابان في نفق حربٍ عالمية ثالثة أشد وطأة، وأكثر من خسارتها القاسية في الحرب العالمية الثانية.

فهذه الحرب كانت نفسية وصحية جسدية لم يعرف أحد شيئاً عن ماهية العدو، وكيف يضرب، ومتى يُنزل صواريخه وقنابله، وبقي المجتمع الياباني عشرات السنوات ليكتشف أسرار هذا العدو القاهر، حتى حَلَّ اللغز الغامض وكشف خفايا المرض الغريب، فقد تأكد لهم أن أحد المصانع كان يلقي مخلفاته السائلة لسنوات طويلة في خليج ميناماتا، وهذه المخلفات كانت تحتوي على نسبٍ ضئيلة من عنصر الزئبق السام الذي كان يتراكم في الكائنات البحرية مع الوقت، حتى وصل إلى الأسماك، ثم إلى قطط القرية، وأخيراً إلى الإنسان، ولذلك فوجود هذه الظواهر الغريبة على القطط كانت مؤشراً ودليلاً مشهوداً على وجود خللٍ في البيئة، وكانت الإنذار الأول للإنسان لوقوع كارثة بيئية وصحية إلى حدٍ سواء. 

وبالرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على هذه الكارثة إلى أن جذورها الخبيثة ضربت أطنابها في المجتمع الياباني حتى كتابة هذه السطور، وانعكاساتها البيئية والصحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية يكتب عنها المهتمون، وآخرها المقال المنشور في صحيفة اليابان تايمز في 18 أغسطس تحت عنوان "دروس كارثة ميناماتا مازالت مستمرة".

ولذلك فإن ظاهرة نفوق القطط في البسيتين، أو أي ظاهرة بيئية غريبة نشاهدها أمامنا، يجب أن لا تمر علينا مرور الكرام، وإنما يجب أن نقف عندها ونسبر غورها لنتعرف على كافة أسرارها، فنتأكد من أسبابها وانعكاساتها على صحة الإنسان وبيئته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق