الأحد، 30 ديسمبر 2012

عشرون عاماً من العذاب



أكثر من عشرين عاماً من الحوار العلمي المحتدم لسبر غور مرضٍ غامضٍ ومزمنٍ ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من عقدين طويلين من الأبحاث البيئية والطبية المستمرة التي لم تتوقف طوال هذه السنوات لكشف أسرار الأعراض المرضية الغريبة التي ظهرت على عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين الذي قاتلوا أثناء حرب الخليج عام 1991، ويعاني من آلامها ومصيرها المجهول طوال السنوات العشرين الماضية أكثر من 700 ألف جندي.

فهناك الكثير من النظريات التي طُرحت لتفسير هذا المرض الغامض الذي أُطلق عليه لاحقاً مرض حرب الخليج ( gulf war illnesses)، أو ظاهرة حرب الخليج (Gulf War syndrome)، لأنه لم يُصِب إلا الجنود الذين حاربوا ضد العراق في حرب الخليج، ولم تنكشف هذه الأعراض المرضية التي لم تُشاهد على الجنود الأمريكيين من قبل، إلا على الذين قاتلوا في الخليج. فهناك مجموعة من الأعراض المرضية العضوية التي يقاسي منها هذا العدد المهول من الجنود كالصداع المزمن، والألم المستمر والشديد في كل أعضاء الجسم، ومشكلات في الذاكرة والتركيز، والشعور المستدام بالتعب والإرهاق، إضافة إلى مشكلاتٍ في الجلد والجهاز الهضمي، وتقلباتٍ في المزاج.

ففي السنوات الأولى من انكشاف الأعراض المرضية ظن الأطباء بأنها الأعراض النفسية المألوفة التي تصيب الجنود أثناء وبعد الحرب بسبب الضغوط والإرهاق الشديدين الذين يتعرض لهما من الناحية الجسمية والعقلية والنفسية، ولكن مع الوقت ارتفعت أعداد الجنود الذين يشكون من الأعراض نفسها حتى بلغت أكثر من 700 ألف.

فبدأ العلماء في إجراء الأبحاث العلمية المعمقة على هؤلاء الجنود وظهرت عدة نظريات خلال العقود الماضية من أجل تقديم تفسيرٍ طبي منطقي لهذه الحالة المزمنة والغريبة. وأُلخص هذه الدراسات في النقاط التالية والتي تفيد تعرض الجنود لمجموعة من الملوثات والمواد الكيميائية أثناء الحرب، منها أخذهم لحبوب بروميد البيردوستجمين( pyridostigmine bromide pills) لتَقِيهم من غازات الأعصاب والحُقن التي أعطيت لهم ضد الأنثركس أو الجمرة الخبيثة(anthrax vaccine)، ومنها أيضاً التعرض للملوثات التي انبعثت بعد إطلاق صواريخ سكد(Scud missiles) وقنابل اليورانيوم المستنفد أو الناضب(depleted uranium)، إضافة إلى تعرضهم للمبيدات الحشرية وطاردات الحشرات التي استخدمت لتعقيم الخيام والملابس والأدوات والمعدات التي يستخدمونها.

واليوم ظهرت نظرية جديدة تحاول إيجاد تفسيرٍ لعذاب هؤلاء الجنود، ونُشرت في مجلة علم وبائيات الأعصاب(journal Neuroepidemiology) في العدد الصادر في 14 ديسمبر 2012، تحت عنوان: دليل وبائي على التأثيرات الصحية الناجمة عن انتقال الملوثات من القنابل الكيميائية عبر الحدود الجغرافية بسبب التفجيرات في حرب الخليج عام 1991، ودراسة أخرى في المجلة نفسها عنوانها:التأثيرات الوبائية للملوثات الكيميائيةفي يناير 2013.

وهاتان الدراستان تفيدان بأن السبب وراء ظهور هذا المرض الفريد هو أنه أثناء حرب الخليج أو عملية درع الصحراء في الفترة من 17 يناير إلى 23 فبراير 1991، والتي بدأت أولاً بالحرب الجوية وهدفت إلى دك وتدمير كافة مخازن ومصانع الأسلحة الكيميائية في الخميسية ومثنى والفلوجة، حيث إن المخازن احتوت على غازات الخردل الكبريتية، وقنابل الأعصاب مثل السارين(sarin gas)، وهذه الأسلحة بعد تدميرها واحتراقها، انتقلت منها الملوثات السامة والقاتلة إلى الهواء الجوي، ثم جنوباً عبر الحدود الجغرافية لمئات الكيلومترات حتى وصلت إلى معسكرات الجنود الأمريكيين في حفر الباطن وغيرها في المملكة العربية السعودية، فتعرض لها عشرات الآلاف من هؤلاء الجنود. والجدير بالذكر أن الآلاف من كشافات وأجراس الإنذار المبكر التي وضعت للكشف عن الغازات، قد صاحت عدة مرات خلال أيام الحرب الجوية، ولكنها اُعتبرت إنذارات كاذبة، حيث إنهم لم يتوقعوا قط أن هذه الملوثات تسير هذه المسافة الطويلة فتنزل على الجنود في معسكراتهم وأماكن مأمنهم وراحتهم.

فالدراسة استندت في استنتاجاتها على المعلومات الاستخباراتية، وعلى صور الأقمار الصناعية للهواء الجوي في تلك الفترة، وعلى التغيرات المناخية، إضافة إلى قياس تركيز هذه الملوثات في الهواء الجوي أثناء الحرب.   

ولذلك من سخريات الدهر نجد أن أمريكا التي أَلقتْ الآلاف من القنابل الفتاكة للقضاء على ترسانة الأسلحة الكيميائية العراقية لكي تُجنب جنودها شر التعرض لها،لم تعلم أن هذه القنابل التي ستدمرها بأيديها سترجع إليها بعد حين وبشكلٍ مباشر وتصيب جنودها بهذا المرض المستعصي عن العلاج! 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق