الأحد، 6 يناير 2013

الدواء القاتل



 من المفروض أن الدواء الذي يتناوله المريض يكون شفاءً له ولسقمه، وتخفيفاً له من معاناته الجسدية والصحية، وراحة له من أي ألمٍ أو ضيقٍ يقاسي منه.

ولكن عندما يكون هذا الدواء نفسه سبباً لعلتي ومعاناتي وآلامي لي ولأبنائي، فهذه هي الطامة الكبرى التي لا تغتفر.

وهذا بالفعل ما وقع في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، وانعكاساته الخطيرة مازالت مستمرة وظاهرة أمام العيان، ووسائل الإعلام حتى يومنا هذا تغطي هذه الكارثة الصحية التي بدأت فصولها الأولى قبل أكثر من ستين عاماً.

فقد اتفقت الصحف البريطانية على نشر خبرٍ في 21 ديسمبر 2012، مفاده موافقة الحكومة البريطانية على تخصيص مبلغ مالي قدره 80 مليون جنيه تعويضاً للأُسر المنكوبة بولادة أطفالٍ مشوهين ومعوقين جسدياً بسبب تناول النساء الحوامل لدواء فريد من نوعه يعمل بشكلٍ فاعلٍ فوري على تخفيف الألم والمعاناة من الصداع الذي تتعرض له المرأة الحامل في الصباح الباكر وخفض درجة حرارة أجسامهن.

فهذا الدواء الذي صُنع في ألمانيا في مطلع الخمسينيات من قبل شركة العقاقير المعروفة جروننثال (Grünenthal)، كان بالفعل له تأثير سحري على المريض من حيث فاعليته الشديدة وسرعة إزالته لآثار الصداع، فهو مهدئ ومسكن قوي، ويساعد على النوم، حتى أُطلق عليه بالدواء الأعجوبة(wonder drug)، ولذلك انتشر في الكثير من دول العالم، وتم تسويقه وتوزيعه في معظم الأقطار، ومن بينها بريطانيا، حيث دخل في السوق المحلية عام 1958، بعد أن سمحت باستخدامه لجنة متخصصة هي (Cohen Committee)، ولكن آثاره الكارثية على النساء والمواليد لم تظهر إلا بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على استخدامه.

فهذا الدواء الذي يتكون من مركب عضوي اسمه الثاليدوميد(thalidomide) ويُسوق تجارياً على شكل كبسولة بيضاء اللون اسمها كونترجن (Contergan) له بالفعل مميزات علاجية خارقة، ولكن ما لم يعرفه الإنسان أن هذا المركب نفسه يكون على هيئتين شبه متطابقتين، إحداهما يتحد مع مركب الـ دي إن آيه الذي يحمل الصفات الوراثية عند الإنسان وله تأثيرات تسبب تشوهات خَلقية أثناء نمو الجنين وهو في بطن أمه، كما أن هذا الدواء الأعجوبة يمنع نمو أوعية دموية جديدة في الجنين، أي توقف نمو بعض الأعضاء في الجسم فيؤدي إلى ظهور أنواعٍ مختلفةٍ من الإعاقات الجسدية والتشوهات الخَلقية. وهذه الحقيقة الطبية قد غابت عن الإنسان عندما سمح باستخدامه، فوقعت ضحيته أكثر من 20 ألف امرأة من 46 دولة في العالم، وسبب الإعاقات والتشوهات الخَلْقية لعشرات الآلاف من الأطفال الذين وُلِدَ بعضهم بلا أطرافٍ كلياً، أو أطرافٍ ناقصة، كنصف رِجل، أو نصف يد، أو ولدوا بأيدٍ ناقصة تشبه بعض الحيوانات البحرية، أو ولدوا بتشوهات في العين، والأذن، والقلب، والكلى، والجهاز الهضمي.

واليوم توجد في بريطانيا 470 حالة من الضحايا الأحياء الُمعوقين جسدياً والمشوهين خَلْقياً والذين مازالوا على قيد الحياة وأعمارهم في الخمسينات، وهناك حالات جديدة يتم كشفها والإبلاغ عنها للحصول على التعويضات اللازمة، ومن أجل رعاية هؤلاء الضحايا والدفاع عن مصالحهم تم إنشاء وقفٍ وصندوقٍ خاص للمرضى، أُطلق عليه بوقف الثالدميد(Thalidomide Trust)، كما تم تأسيس مجلس للعناية بالمصابين ومتابعة حالاتهم هو “المجلس الاستشاري القومي للثاليدوميد”.

وفي الحقيقة أن هذه الكارثة الصحية المزمنة بالرغم من انعكاساتها الصحية والنفسية والاجتماعية على الذين تضرروا منها، وعانوا من آثارها المشهودة طوال سنوات حياتهم، إلا أنها أيقظت الإنسان من سباته العميق، وجعلته أكثر صرامة في عملية إنتاج الدواء، وغيرت من أسلوب تسويقه وتوزيعه على المرضى على المستوى الدولي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق