الأحد، 20 يناير 2013

التلوث يشل الحياة كلياً




فجأة بدأ نبض القلب في السكون، وانْشَلَّتْ الأعضاء جميعها، فتوقفت الحياة كلياً.
هذا بالضبط ما حدث في العاصمة الصينية بكين لفترة زمنية تجاوزت أسبوعاً واحداً في مطلع هذا الشهر، فقد نزل عليهم عدو من السماء يترقب بهم منذ سنوات، فسقط الضباب الكثيف المُلوث وحل الظلام وحجب ضوء الشمس المشرقة الجميلة، وانعدمت الرؤية، فتحول النهار ليلاً والصبح مساءً، وتحول لون السماء من الزرقة الجميلة التي ترتاح له العين، وتطمئن إليه النفس، إلى اللون الأسود والبرتقالي القاتم الذي يشمئز له الإنسان، ويقشعر له بدنه، ويكتئب عند رؤيته ويقلق عند مشاهدته، وترتجف له أجهزته التنفسية، وتتصلب فيه شرايين القلب فتمنع تدفق الدم وجريانه إلى باقي أعضاء الجسم، فنجم عن هذه الحالة الكارثية اختناق الناس ولجوئهم إلى أقسام الطوارئ في المستشفيات ليبقوا سالمين على قيد الحياة، فاكتظت المستشفيات والمراكز الصحية بهذه الأعداد الكبيرة من المرضى الذين جاؤوا من كل حدبٍ وصوب لتلقى العلاج.

فعندما نزل هذا العدو الغاشم الذي لا يُفرق بين الصغير والكبير، ولا يميز بين الغني والفقير، ولا يرحم الشجر ولا الحجر، صاحت أجراس الإنذار حول المدينة الصينية برمتها، وصدرت أوامر صارمة من الجهات الحكومية تمنع الناس من الخروج إلى الشوارع، وتحذرهم من ممارسة أي نشاط عضلي خارج المنزل أو المكتب. فقد وجهت الأجهزة الحكومية بشدة كافة شركات التشييد والبناء من العمل وحثت العمال على البقاء في منازلهم، كما أمرت الشركات الصناعية إلى خفض إنتاجها وأنشطتها. وعلاوة على ذلك فقد أغلقت وزارة التربية كافة المدارس الحكومية حفاظاً على صحة التلاميذ من هذا العدو الذي هجم على المدينة، كما حذرت الحكومة موظفيها من استخدام سياراتهم إلا للضرورة القصوى، حتى اختفى الناس من الشوارع وهربوا إلى منازلهم كأنهم حُمرٌ مُستنفرة فرَّتْ من قَسْورة.   

كذلك توقف المطار عن العمل كلياً، فشلَّت حركة الطائرات وتوقفت عن الطيران وألغيت الرحلات الجوية، فتكدس الناس في المطارات بانتظار الفرج من السماء، كما أُلغيت المباريات الرياضية الدورية والكثير من الأنشطة الجماعية الخارجية.

كل هذه الاضطرابات المميتة للحياة اليومية وقعت لسببٍ واحد فقط هو إهمال الجهات الحكومية وتجاهلهم لتلوث البيئة، وبالتحديد لتلوث الهواء الجوي. فلم تنزل هذه الحادثة من فراغ، ولم تنزل بين عشيةٍ وضحاها، وإنما جاءت بسبب الإهمال المتعمد والمستمر لعقود من الزمن، ونتيجة لتجاهل صحة مكونات وعناصر البيئة منذ سنوات طوال عندما بدأت الصين في العمليات التنموية أحادية الجانب، فركزت فقط على الجانب الاقتصادي وزيادة ثروة الدولة وتحسين وضعها المالي، ونست وأغفلت كلياً الجانب البيئي في هذه التنمية،  فسمحت للملوثات من غزو جميع عناصر البيئة، وسهلت لها سبل التعمق في الأوساط البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، فانطلقت ملايين الأطنان من الملوثات السامة والمسرطنة إلى البيئة من آلاف المصانع ومحطات توليد الكهرباء، وانبعثت المواد الكيميائية الخطرة من ملايين السيارات التي تعمل كمصانع متحركة تدمر الهواء الجوي.

فنتيجة لهذا الإهمال والغفلة للتنمية البيئية ولعقود طويلة من الزمن، وصلت الحالة إلى ذروتها، وبلغ السيل الزبى، فلم تستطع مكونات البيئة من تحمل المزيد، ولم تتمكن من استيعاب الملايين من الأطنان من الملوثات التي أُلقيت في بطنها، حتى ضعف الجسد، وظهرت عليه آثار المرض، فتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فانهار ساقطاً صريعاً على الأرض.

والآن وبعد هذه الكارثة، لم تعد قضية تلوث البيئة في الصين تشغل بال العلماء والأطباء، وإنما تحولت إلى قضية رأي عام، تدخلت فيها كافة فئات الشعب، بل وأصبحت قضية سياسية وأمنية، فقد خرج الناس في مظاهرات واعتصامات تندد بالوضع البيئي المتدهور، وتمنع إنشاء مصانع تلوث البيئة وتسمم المسطحات المائية، حتى أن بعض المظاهرات تحدت رجال الأمن واستخدمت وسائل العنف والقوة لوقف مصادر التلوث.

وما يحدث الآن في الصين، سيحدث لأية دولة تتبع هذا النمط المُعوق من التنمية، فلا بد من أن نستفيد من هذه التجربة الصينية ونجنب أنفسنا وقوع مثل هذه الكارثة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق