الأحد، 26 يناير 2014

سمكة غازية تُكلِّف أمريكا 18 بليون دولار!


 

الغزو الأجنبي للدول، أو احتلالُ دولةٍ ما لدولة أخرى لا يكون فقط بتحريك الجنود والدبابات والطائرات تجاه تلك الدولة وغزوها عسكرياً، ولكن الآن يكون الغزو بانتقال كائنٍ حيٍ صغيرٍ وبسيط، نباتياً كان أم حيوانياً، إلى موطنٍ جديد، أو بيئةٍ غريبة لا ينتمي إليها ولا يكون هذا الكائن الحي من سكانها الأصليين الذين عاشوا فيها أجيالاً طويلة وتكاثروا فيها، وتربوا في كنفاتها، وترعرعوا تحت ظلها، وتكيفوا مع مكونات بيئتها والمناخ الموجود فيها، وتفاعلوا مع الكائنات الحية النباتية والحيوانية والكائنات الدقيقة التي قد لا ترى بالعين المجردة، فتعايشوا معاً في تلك المنطقة في أمنٍ وسلامٍ وطمأنينة، لا يطغى أحد على الآخر، ولا يعتدي أحد على حرمات الكائنات الأخرى.

 

فعندما ينتقل هذا الكائن الحي الجديد الغريب على ذلك الموطن ويغزو الكائنات الحية التي تعيش فيها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، يُحدث إرباكاً شديداً وخللاً في التوازن الدقيق الموجود بين مكونات تلك البيئة الحية وغير الحية، فيُشكل مع الزمن عامل قلقٍ ورَيْبة لكائناتها الوديعة والمسالمة، وفي حالاتٍ مُحددة تنكشف مظاهر خطرة تؤكد غزو هذا الكائن الجديد واحتلاله كلياً لتلك البيئة والسيطرة التامة عليها، وطرده للسكان الأصليين، بل والقضاء عليهم واحداً تلو الآخر، حتى تتحول تلك البيئة له ولِبَنِي جنسه.

 

وهذا ما يحدث الآن بالفعل في إحدى البيئات المائية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد نهر ميسيسيبي الذي يشق أمريكا من جنوبها إلى شمالها والبحيرات العظمى التي هي رئة الثروة السمكية الأمريكية ومصدر رئيس للمياه العذبة.

 

وتبدأ قصة هذا الغزو الأجنبي لأمريكا بممارسة بسيطة وبريئة في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم عندما قام أصحاب مزارع إكثار الأسماك في الولايات الجنوبية في أمريكا، مثل ولايتي ميسيسيبي وأركانساس(Mississippi and Arkansas) باستيراد سمكة الكارب الآسيوية(Asian carp) من الصين للقيام بهمةْ تنظيف أحواض مزارع الأسماك من الطحالب الزائدة التي عادةً ما تنمو بغزارة شديدة فتؤثر على نوعية مياه الأحواض السمكية، ولكن هذه السمكة لم تبق طويلاً في هذه الأحواض، وإنما مع الزمن ولعدة أسباب انتقلت إلى بيئاتٍ مائية جديدة لا تنتمي إليها، ولذلك تعد كائناً دخيلاً وأجنبياً عليها، وبالتحديد غزت بيئة نهر ميسيسيبي العظيم.

 

فمشكلة هذه السمكة أنها تتكاثر بسرعة شديدة وكبيرة الحجم، إذ يبلغ وزنها نحو 45 كيلوجراماً، ولذلك فشهيتها مفتوحة طوال اليوم وتأكل كثيراً، وبخاصة الأعشاب والنباتات النهرية الأخرى التي تعتبر الغذاء الرئيس لأسماك تجارية تعيش في النهر وتكيفت معه منذ آلاف السنين. ولذلك فهي تسبب أزمة غذائية للسكان الأصليين من الأسماك من حيث القضاء على مصدر غذائها، ثم افتراسها رويداً رويدا وتهديد استدامة حياتها وبقائها.

 

ونتيجة لهذا التهديد الكبير للثروة السمكية في نهر ميسيسيبي والبحيرات العظمى، والذي أعتبره أكبر عملية غزوٍ واحتلالْ غير عسكري، قامت أمريكا برمتها من علماء ورجال السياسة والقانون والاقتصاد لسبر غور هذه القضية الوطنية، حتى أن أوباما تدخل شخصياً وعقد عدة لقاءات في البيت الأبيض لعلاج هذه القضية البيئية الاقتصادية الملحة والمزمنة.

 

وقد حددت أمريكا العديد من الإجراءات للقضاء على ظاهرة غزو واحتلال هذه السمكة للبيئات المائية، منها وضع مكافأة مالية على رأس كل سمكة لتشجيع الناس على صيدها، ثم إعلان وزارة الداخلية في يوليو 2007 وتصنيفها بأن سمكة الكارب تعتبر "سمكة غازية" وغير مرغوب فيها في أمريكا، وبعدها قام الكونجرس في يوليو 2012بتكليف هيئة مهندسي الجيش الأمريكي(Army Corps of Engineers) بإعداد تقريرٍ مفصلٍ عن هذه القضية، حيث نُشر هذا التقرير في السادس من يناير من العام الجاري، وجاء فيه أن علاج هذه القضية بشكلٍ فاعلٍ يُكلف أمريكا قرابة 18.4 بليون دولار، ويستغرق تنفيذه نحو 25 عاماً، وبالرغم من هذه الكلفة العالية إلا أن التقرير أفاد بأن العلاج المقترح لن يعطي ضماناً كاملاً لمنع غزو هذه السمكة كلياً!

 

فهذه قضية واحدة فقط من بين قضايا كثيرة في كل أنحاء العالم تتمحور حول الكائنات الغازية، فهل قُمنا نحن في البحرين، أو في الخليج بدراسة هذه الظاهرة، وبخاصة أن هناك عشرات الآلاف من ناقلات النفط وغيرها التي تدخل الخليج العربي منذ عقودٍ طويلةٍ فتصرف ملايين الأمتار المكعبة من مياه التوازن التي تحتوي على كائنات نباتية وحيوانية وكائنات دقيقة دخيلة وغريبة إلى مياه الخليج؟ 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق