الأحد، 19 يناير 2014

50 عاماً



خمسون عاماً مضت على رفع الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً الراية الحمراء ضد تدخين السجائر، وخمسون عاماً مضت على تحذير وتأكيد "الجرّاح العام"، أو الرئيس التنفيذي للخدمات الصحية العامة والمتحدث الفيدرالي الرسمي في شؤون الصحة العامة الأمريكي بأن للتدخين تأثيرات صحية خطيرة تهدد الصحة العامة، وتسبب في وقوع المدخن في أسقامٍ وعللٍ مستعصية على العلاج، وبالتحديد الإصابة بسرطان الرئة وأمراض الالتهاب الرئوي المزمنة، وخمسون عاماً مضت الآن على هذا الإنذار الأول الذي أُطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، ليس لأمريكا وحدها فحسب، وإنما لكل دول العالم قاطبة، ولكن إنسان مدخن، أو يعتزم الشروع في هذه العادة السيئة والمهلكة للنفس والجسم والمال.

فقد أعلنها الدكتور لوثر تيري(Luther Terry) المسئول الأول عن شؤون وهموم وحماية الصحة العامة للأمريكيين في 11 يناير 1964 صرخةً مدوية ليسمعها كل إنسان يعيش على سطح الأرض بأن التدخين آفة ومرض يجب القضاء عليه، وأن على الكونجرس الأمريكي تنظيم وتقنين إنتاج، وتسويق، وبيع هذا المنتج الخطير من خلال سن التشريعات المناسبة لمنع الضرر العام والمفسدة الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية العظيمة التي تنجم عن تعاطيه على الفرد وأفراد أسرة المدخن والمجتمع برمته.

ولم تأت صرخة هذا المسئول الأمريكي الكبير عن الصحة العامة عبثاً ومن غيرٍ دليلٍ دامغٍ يدين تدخين السجائر قبل خمسين عاماً، وإنما استند إلى تقريرٍ علمي ميداني شامل قام بحصر قرابة 7000 دراسة طبية وبيئية نُشرت على مدار أكثر من عشرين عاماً منذ مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، وتُجمع على أن ظاهرة تدخين السجائر التي انكشفت كعادة اجتماعية "جديدة" في تلك المرحلة الزمنية وأخذت تنشر بسرعةٍ شديدةٍ في المجتمع الأمريكي والمجتمعات الأخرى كانتشار النار في الهشيم، هي في الحقيقة ظاهرة سلبية وعادة سيئة تهدد الصحة العامة للفرد والمجتمع.

والآن ونحن نعيش ذكرى مرور خمسين عاماً على النداء التحذيري الحكومي الأمريكي الأول حول أضرار تدخين السجائر، هل توقف الناس عن التدخين، وهل انتهت المشكلة، أم تفاقمت واستفحلت؟
لا شك بأن التقرير أحدث فرقاً كبيراً في السنوات الأولى من حيث وعي الناس واتجاهاتهم وانعكاس ذلك على عدد المدخنين، حيث انخفض في أمريكا بنسبة 59%، حسب المقال التحريري المنشور في يناير 2014 في مجلة الجمعية الأمريكية الطبية(Journal of the American Medical Association)، ولكن مازال هناك زهاء 42 مليون أمريكي مدخن اليوم، وأكثر من 3000 طفل وشاب أمريكي يجربون التدخين يومياً.

ويعزى السبب في ذلك إلى أن شركات التبغ الذي انفجر التقرير في وجها، اعتبرته بمثابة إعلان الحرب العلنية ضدها، فلم تقف متفرجة تنتظر نحبها ودفنها، ولم تقف مكتوفة اليدين عاجزة ضعيفة، وإنما شمرت عن ساقيها وعملت بكل جدٍ وحماس وشراسة، فاستغلت كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية وكل ما لا يخطر على بال أحد من مكرٍ ودهاءٍ وحيلٍ شيطانية لمحاربة التقرير، حتى أنها الآن تصرف في أمريكا وحدها قرابة 8 بلايين دولار سنوياً على هذه الجهود.

فقد عملت شركات التبغ بتجنيد وشراء كل من ليس له ضمير من أجل تشجيع وتحفيز الناس على التدخين وابتعدت وسائل حديثة بهدف تحقيق ذلك، فاستغلت أساتذة الجامعات ومراكز البحوث لإجراء دراسات تشكك في أضرار التدخين وتحاول إيجاد ثغرات في الأبحاث التي تؤكد أضراره، كما استغلت جماعات الضغط السياسية ورجال التشريع والسياسة للوقوف بجانبها والتخفيف من حدة القوانين الصادرة ضد السجائر، كما استغلت الممثلين وأفلام هوليود والرياضيين في مجال التسويق والدعاية بأساليب غير مباشرة. وفي الجانب الآخر غيرت من السيجارة نفسها من حيث الشكل والحجم والتصميم النهائي، وسوقت منتجات جديدة منها سجائر منخفضة القطران والسجائر الإلكترونية، كما أدخلت مضافات إلى محتوى السيجارة لترغيب وجذب فئات عمرية جديدة كالأطفال والشباب، فأنتجت سجائر ذات نكهات مختلفة من فواكه وحلويات وغيرهما من آلاف المضافات التي تدخل في صناعة هذه السجائر ولا يعلم أحد حتى الآن عن هويتها ومكوناتها وصلاحيتها للإنسان.

ولذلك فالصراع بين الحكومات وبين شركات التبغ والسجائر لن ينتهي قريباً، ولن يكون سهلاً، فهو صراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وهو صراع مستمر لأكثر من مائة عام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق