الأحد، 13 أبريل 2014

المرض الذي حيَّر أمريكا


بعد أن وضعتْ حرب الخليج أوزارها، وذهب الجنود إلى ثكناتهم، ورحل المقاتلون الأمريكيون إلى أوطانهم ومسقط رؤوسهم، ووُضعت المعدات الحربية والذخائر في المخازن، بدأت عندئذٍ وبشكلٍ مباشر حرب أخرى، ولكن كانت هذه الحرب من نوعٍ آخر أشد وطأة على الجنود الأمريكيين وعلى أسرهم، وأكثر تدميراً لصحتهم وسلامتهم، فالعدو مجهول وغير معروف ولا يمكن الكشف عن هويته ومحاربته والتخلص منه.

 

فعملية عاصفة الصحراء، أو الحرب الأولى التي خاضها الجنود الأمريكيين خلال العامين 1990 و 1991لم تدم طويلاً، ولم تستمر عقوداً طويلة من الزمن، ولم يتكبد المجتمع الأمريكي من هذه الحرب خسائر بشرية فادحة أو سقوط ضحايا بأعدادٍ كبيرة مشهودة، ولكن الحرب الثانية التي خاضها الجنود لم تتوقف حتى يومنا هذا منذ انتهاء حرب الخليج الأولى، فهي مازالت مستمرة، والمعاناة الشديدة قائمة، والضحايا دائمة، والجراح تنزف بغزارة وعمق، فحتى الآن مضت 24 عاماً على هذه الحرب الثانية وهي مازالت في شدتها ومحتدمة بعنف وقوة، ولم يتمكن المجتمع الأمريكي بعلمائه وأطبائه من إيقاف هذا النزيف الدامي ومنع سقوط الضحايا،فأعلنوا عجزهم وضعف حيلتهم أمامه بالرغم من أجهزتهم المتطورة والحديثة وغزارة علمهم وخبراتهم.

 

فمنذ رجوع الجنود إلى أرض الوطن عام 1991، والكثير منهم يعاني من أعراضٍ غريبة وغامضة ومتعددة تتلخص في مشكلاتٍ وآلامٍ في العضلات والمفاصل، وعدم القدرة على ممارسة الرياضة، ومشكلات في الأعصاب والجهاز الهضمي، والشعور بالتعب والإرهاق المستمرين، وضيقٍ في التنفس، وفقدان الذاكرة، إضافة إلى  مشكلات سلوكية ونفسية كالاكتئاب والقلق، وهذه الأعراض انكشفت حتى الآن على أعدادٍ رهيبة من الجنود يتراوح عددهم بين 175 إلى 250 ألف جندي، أي بنسبة تتراوح بين 25 إلى 33% من العدد الكلي للجنود وهو نحو 700 ألف.

 

ففي بداية ظهور أعراض المرض لم يعترف الأطباء بأنه مرض جديد مستقل في حد ذاته كالأمراض العضوية الأخرى المعروف اسمها وسببها وعلاجها، كما إن وزارتي الدفاع والمحاربين القدماء أنكروا وجود مثل هذه الأعراض في الواقع،واعتبروا أن هذه الأعراض وهمية وغير عضوية، وإنما نشأت بسبب الصدمة والهزة الجسدية والعقلية والنفسية الشديدة التي يتعرض لها الجندي عند خوض المعارك القاتلة والوحشية، ومشاهدة أهوالها والأجسام الميتة، والأجساد المتقطعة والمتناثرة، والدماء الغزيرة التي تنزف منها، ويُطلق عليه بحالة ما بعد الصدمة (post-traumatic stress disorder)، علماً بأن هناك نحو 7.5 مليون أمريكي يتعرضون لمثل هذه الحالات ويصابون بأعراض محددة تنكشف عليهم نفسياً عند التعرض لأية صدمة أو ضغوط موجعة، حسب تقرير الواشنطن بوست في 4 أبريل من العام الجاري.

 

ولكن مع الزمن، ومع ازدياد هذه الحالات التي وصلت إلى قرابة ربع مليون جندي يعانون من أعراض مرضية واحدة، اضطر البنتاجون إلى النظر بعمق وجدية أكثر إلى هذه الحالات والتعامل برفق وعاطفة أكبر مع هذه الأعداد المتعاظمة ومع معاناة الجنود وأسرهم، وبالتالي انكشفت عدة نظريات لتفسير هذه الحالات الغريبة الفريدة من نوعها، وقُدمَتْ الأدلة العلمية والطبية لمعرفة أسرارها وإيجاد الخيوط لفك شفرات هذا اللغز المحير.

 

ومن هذه النظريات هي تعرض الجنود لخليط من الملوثات والمواد كيميائية منها حبوب بروميد البيردوستجمين(pyridostigmine bromide pills) التي أعطيت لتَقِيهم من غازات الأعصاب، ومنها التعرض للملوثات التي انبعثت بعد إطلاق صواريخ سكد(Scud missiles)، كذلك التعرض للمبيدات الحشرية التي استخدمت لتعقيم الخيام والملابس والأدوات والمعدات التي يستخدمها الجنود، والحُقن التي أعطيت لهم ضد الأنثركس أو الجمرة الخبيثة(anthrax vaccine)، إضافة إلى التعرض لغبار اليورانيوم المستنفد أو الناضب(depleted uranium). 

 

وآخر هذه النظريات هي المنشورة في27 مارس من العام الجاري في مجلة بلاس ون(PLOS ONE) من فريق من العلماء في كلية الطب في جامعة كاليفورنيا في سان ديجو، حيث أعلن بأن الحالة التي يعاني منها الجنود ليست نفسية وليست أوهام وأحلام اليقظة المزعجة التي لا تفارقهم ليلاً أو نهاراً، وإنما هي حقيقة واقعة وحالة عضوية فسيولوجية ومرض مستقل، وأن السبب هو وجود خللٍ وضعفٍ في قدرة الخلية على إنتاج الطاقة، والجزء الذي أصابه الخلل والمسئول عن إنتاج الطاقة في الخلية هو الميتاكوندريا(mitochondria)، مما يؤدي مع الوقت إلى تلف الخلايا فتنجم عنه أعراض مرضية غريبة في أعضاء محددة من الجسم مثل المخ والقلب والعضلات والكلية والكبد والرئة، وهذه هي الأعراض نفسها التي تظهر على الجنود والمجموعات المقاتلة.

 

وبالرغم من ظهور هذه النظرية، إلا أن هناك الكثير من الغموض الذي يلف حول هذه الحالة المرضية، وهناك الكثير من الأسئلة التي مازالت تحتاج إلى الجواب الشافي والعلاج الكافي، ولذلك فإن هذه الحرب الثانية التي انكشفت بعد حرب الخليج لم تنته، وسيعاني منها المجتمع الأمريكي لعقودٍ طويلةٍ قادمة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق