الخميس، 12 يونيو 2014

المثوى الأخير لمخلفاتنا

لا يخطر قط على بال البشر أن المخلفات التي نُلقيها في غير مكانها قد تصل في أغلب الأحيان إلى قاع البحار والمحيطات، وتنتقل مع الوقت وعبر أوساط متعددة إلى أن تجثم في نهايةِ مطاف رحلتها الماراثونية إلى أعماقٍ سحيقةٍ ومظلمة تزيد عن 5000 آلاف مترٍ، بل وفي بعض الأحيان يكون المثوى الأخير لهذه المخلفات في أعماق المحيطات النائية والبعيدة عن المناطق البَرْية وعن أنشطة الإنسان.

فعلى مستوى الخليج العربي وفي المياه الإقليمية لمملكة البحرين، فقد أَجريتُ دراسة مستفيضة وميدانية بالتعاون مع فريق الغوص البحريني في مطلع القرن الحادي والعشرين، وبالتحديد عام 2002، حول كمية ونوعية المخلفات الصلبة الخفيفة والثقيلة المدفونة في قاع البحر في 18 منطقة بحرية غطت كل المياه الإقليمية.

وقد توصلنا إلى عدة اكتشافات لم تكن في الحسبان، فلم ترَ العيون مثلها، ولا سمعت الآذان بها، ولا خطر على قلب بشر، فقد وجدنا في قاع البحر أنواعاً مختلفة من المخلفات التي لم نتوقع وجودها في تلك البقع النائية من البيئة البحرية وبأعدادٍ كبيرة جداً، منها وجود أعدادٍ كبيرة من السيارات قابعة في العمق وكأنك في موقف بحري للسيارات، ومنها زجاجات الخمر المملوءة، وقدور الطبخ، ودلة الشاي، وأشواك وملاعق بلاستيكية، وعبوات زجاجية، وعلب الألمنيوم للمشروبات الغازية، ومن بين هذا الخليط المعقد من المخلفات، جاءت المخلفات البلاستيكية في المرتبة الأولى بنسبة 44%.

واليوم أُجريتْ دراسة مشابهة على المخلفات في البحار والمحيطات حول قارة أوروبا، مثل المحيط الأطلسي والقطب الشمالي والبحر الأبيض في الفترة من 1999 إلى 2011، حيث حصرت المخلفات الصلبة في 32 موقعاً في قاع هذه المحيطات وفي أعماق زادت عن 4500 مترٍ، وشملت 588 عينة سُحبت من القاع، ونُشرت نتائج هذه الدراسة الشاملة في مجلة بلاس ون(PLOS ONE) في 30 أبريل 2014 تحت عنوان"انتشار وكثافة القمامة في البحار الأوروبية". ومن أبرز الاستنتاجات التي تمخضت عن الدراسة التأكيد على أن البيئة البحرية، حتى ولو كانت بعيدة عن حياة البشر وعن أعمالهم التنموية وفي مواقع تبعد عن اليابسة أكثر من ألفي كيلومتر، قد وصلت إليها المخلفات الصلبة بكل أحجامها وأنواعها وأشكالها، وأن أعماق البحر تحولت إلى مقابر جماعية تَرقُد فيها المخلفات بأمنٍ وسلام خالدة مخلدة في بطنها. كما توصلت الدراسة إلى نتيجة تطابق النتيجة التي حصلتُ عليها في دراستي، وهي أن أغلب أنواع المخلفات وأكثرها شيوعاً وانتشاراً كانت مصنوعة من البلاستيك، وبنسبة بلغت 41%، ومعظم هذه المخلفات البلاستيكية كانت شباك وخيوط وأدوات الصيد المهجورة، والأكياس، والعبوات، والحبال المصنوعة من البلاستيك.

وهذه النسب العالية للمخلفات البلاستيكية في بحارنا تؤكد التهديد الشديد الذي تتعرض له البيئات البحرية والكائنات التي تعيش وتستظل تحتها، فخطورة البلاستيك تتمثل في عدة نقاط رئيسة. الأولى هي أن المخلفات البلاستيكية لا تتحلل كما تتحلل المخلفات العضوية، وإنما تتراكم في البيئة البحرية وتتعاظم أحجامها مع الوقت، فبعضها يطفو فوق سطح الماء والبعض الآخر يكون مثواه الأخير في قاع البحر. والنقطة الثانية فهي أن بعض المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم تلتهمها السلاحف والكائنات البحرية الأخرى والطيور المائية فتختنق وتموت. وأما الثالثة فهي أن المخلفات البلاستيكية مع الوقت تتكسر وتتفتت إلى قطعٍ صغيرة جداً بفعل الحرارة والضوء وماء البحر المالح، وبعضها لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، وهذه القطع المتناهية في الصغر أو المعروفة بالميكروبلاستك تدخل مباشرة في أجسم الكائنات البحرية النباتية منها والحيوانية ويكون لها تأثيرات خطره تهدد حياتها بالموت البطيء. والنقطة الرابعة فهي أن من ضمن مكونات المخلفات البلاستيكية مواد خطرة تترشح مع الوقت وتدخل في البيئة البحرية وتصبح مع الوقت جزءاً من السلسلة الغذائية البحرية التي تنتهي في نهاية الهرم الغذائي بالإنسان. وأما النقطة الخامسة والأخيرة المتعلقة بخطورة المخلفات البلاستيكية فهي أن هذه المخلفات تمتص وتتشرب ملوثات موجودة في مياه البحر وفي التربة القاعية، فتَحْمِلُ معها هذه الملوثات وتتراكم فيها، ثم منها تنتقل إلى الكائنات البحرية بشقيها النباتي والحيواني فتدخل في السلسلة الغذائية للنظام البيئي البحري، ثم أخيراً تصل إلى الإنسان.

ولذلك أستطيع أن أُجزم على وجود حقيقة وظاهرة موجودة في كل بحار العالم، مهما كانت بعيدة عن أيدي البشر وعن أنشطته اليومية، وهي أن المخلفات الصلبة التي نتخلص منها بطرق غير سليمة تصل في نهاية الأمر إلى البيئة البحرية، وبالتحديد فإنها تمكث في قاع البحر إلى أجلٍ غير مسمى، فتُسمم الإنسان والحيوان والطير دون أن ندري، مما يحتم علينا التأكد من تبني الأساليب البيئية الصحيحة والمستدامة في إدارة المخلفات الصلبة، والعمل على إزالة المخلفات الجاثمة حالياً في قاع بحارنا ومحيطاتنا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق