الخميس، 19 يونيو 2014

صورة وقصة حزينة



قبل أيام شاهدتُ صورة مفزعة ومحزنة في الوقت لنفسه، لا تغيب عن مخيلتي ولا أستطيع نسيانها، فقد كانت صورة فوتوغرافية لامرأةٍ بَلغتْ من العُمر عِتيا، واشتعل رأسها شيباً، وأكل الدهر في جسدها وعمرها، فوجهها يشع حُزناً وألماً ويحكي قصة حياتها المـُـبْكية والمخيفة والمليئة بالمآسي والآلام، وتجاعيد وجهها تؤكد قساوة الحياة التي مَرَّت بها، وتبين مرارة الأيام التي عاشتها، والساعات والدقائق المضنية التي قضتها طوال سنين عمرها.

هذه الصورة لامرأة سليمة الوجه والشعر والعينين والأذنين والفم والأنف، ولكن عندما تنزل بعينيك قليلاً إلى أسفل الصورة، فستشاهد هنالك المأساة الحقيقة التي واجهتها هذه المرأة المسكينة، سترى جزءاً غير مكتملِ النمو من الذِّراعَينْ فقط، ولكنهما ليس كذراع الإنسان الطبيعي العادي، فالذراع مشوه، ولا يبدو كذراع بشرٍ سليم، وفي نهاية الذراع، وبالتحديد إلى المـِرْفق تجد نمو بعض الأطراف الشاذة الغريبة التي لم أشهدها من قبل لا في إنسان ولا حيوان، وأما اليدان فلا أثر لهما ولا وجود لهما كلياً، أي أن هذه المرأة عاشت طوال هذه السنوات الطويلة من عمرها فاقدة نعمة اليدين، فهي لا تتحسس الأشياء ولا تستطيع لمسها والإمساك بها أو الشعور بوجودها، ولا تتمكن من التواصل مع الناس عند الحديث معهم، والتعبير باستخدام اليدين عند الكلام، كما حُرِمت طوال سنوات حياتها من القيام بالأعمال اليدوية من الكتابة، والرسم، والطباعة على الكمبيوتر، واستخدام الهاتف النقال، وغيرها من الأدوات والوسائل الحديثة التي هي في متناول كل إنسانٍ صغيرٍ أو كبير.

فهذه المرأة الطاعنة في السن الآن، والتي مازالت على قيد الحياة تَشْهَدُ على كارثة بشرية من صنع الإنسان نفسه، وتحكي قصة الآلاف من الذين عانوا من هذه الحالة المرضية المرعبة في معظم دول العالم، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ويقاسي يومياً من شدة ما أصابهم.

فقد بدأ المشهد الأول من هذه المسرحية الواقعية في الخمسينيات من القرن المنصرم، وفُتح الستار على مشهد نساءٍ حوامل يعانين من الصداع وآلام الحمل في الصباح الباكر فيتناولن دواءً صنع في ألمانيا خصيصاً لمثل هذه الحالات المرضية من مجموعة جرونثال(Grünenthal Group)، ويُسوق تجارياً على شكل كبسولة بيضاء اللون تحت اسم كونترجن (Contergan)، وهذا الدواء عبارة عن مركبٍ عضوي اسمه الثاليدوميد    (Thalidomide)، ونظراً لخصائصه الفريدة وفاعليته في العلاج فقد أُطلق عليه بالدواء الأعجوبة(wonder drug)، حيث يتميز بأنه مُهدئ ومسكن قوي، ويساعد على النوم، ويستخدم لعلاج الصداع، والكحة، والأرق. ثم يُسدل الستار على هذا المشهد ليفتح على مشهد ولادة عشرات الآلاف من الأطفال المشوهين خَلْقِياً الذين وُلِدَ بعضهم بلا أطرافٍ كُلياً، أو أطرافٍ ناقصة، كنصف رِجل، أو نصف يد، أو ولدوا بأيدٍ ناقصة تشبه بعض الحيوانات البحرية، أو ولدوا بتشوهات في العين، والأذن، والقلب، والكلى، والجهاز الهضمي. وهنا تأتي الحيرة والدهشة معاً من واقع هؤلاء الأطفال المعوقين جسدياً وبأشكال لم يشهد لها الإنسان مثيلاً، فاستغرق العلماء والأطباء في البحث عن الحقيقة والوصول إلى الأسباب الخفية التي تقف وراء هذه الطامة البشرية الكبرى، فاتجهت أصابع اتهام الجميع نحو هذا الدواء السحري، الذي أصلح وأفسد في الوقت نفسه، وقَدَّم العلاج وأصاب بالمرض في آنٍ واحد، فشفى إنساناً من علته وأصاب آخرين بإعاقات مزمنة دائمة ومعاناة نفسية وعضوية.

وبعد سنواتٍ عجاف طويلة من الشد والجذب والمعارك الخفية والعلنية بين الضحايا من هذا الدواء وبين الشركة الألمانية المنتجة للدواء، والتي استغرقت قرابة خمسين عاماً، اعترفت هذه الشركة بمسؤوليتها عن وقوع هذه الكارثة الصحية العامة وأبدت أسفها للمتضررين، وقامت ببناء تمثالٍ في مدينة ستولبرج(Stolberg) الألمانية لطفلٍ صغيرٍ لا أطراف له ليُخَلد ذكرى هذه الواقعة الأليمة. 

فمثل هذه الكوارث يجب أن لا تـَمُر علينا دون أن نتعظ بها ونتعلم منها، فالأدوية شر لا بد منه، ومعظم الأدوية له آثار جانبية، بل وفي بعض الحالات يكون الضرر أشد وأقسى، فمن الضروري إذن على الشركات المصنعة للأدوية التعرف عن كثب وبدراسات ميدانية معمقة على جميع هذه الآثار والأعراض الجانبية ونشر نتائجها للناس، وعدم تسويق الأدوية الجديدة قبل التأكد منها كلياً، وعلى دولنا من جانبها طلب الشهادات والإثباتات التي تؤكد سلامتها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق