الخميس، 26 يونيو 2014

الأراضي المسمومة



بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي، قُمتُ بزيارة للكويت للاطلاع على أكبر كارثة بيئية فريدة من نوعها شهدها التاريخ البشري، ولا أظن بأن الإنسان سيشهد مثل هذه الطامة البيئية الكبرى مرة ثانية.

فقبيل انسحاب الجيش العراقي من الكويت في نهاية شهر فبراير عام 1991، قام بتدمير زهاء 1073 بئراً نفطياً، وحرق أكثر من 737 من هذه الحقول النفطية، وكَوَّن عندئذٍ مشهداً نارياً مرعباً فأضاء مدينة بأكملها في ظلمات الليل السوداء الكالحة، وكأنها مصابيح جبارة ضخمة متناثرة في أطراف الصحراء القاحلة، وهذا المنظر الغريب والمهيب كان يمكن رؤيته بكلِ جلاءٍ ووضوح من مسافاتٍ طويلةٍ على الأرض، بل ومن خلال صور الأقمار الصناعية في أعالي السماء.

فهذا الاحتراق لهذا الكم الهائل من الآبار النفطية خلق مظاهر بيئية ومناخيةلم تكن في الحسبان ولم يفكر بوقوعها إنسٌ ولا جَانْ، فلم ترَ العيون مثلها، ولا سمعت الآذان بها، ولا خطر على قلب بشر، فتداعياتها من تلوث الهواء الجوي بالدخان الأسود والخليط السام والمسرطن من الملوثات بلغت البر والبحر والجو ووصلت إلى مناطق بعيدة جداً تعدت العشرة آلاف كيلومتر، كما كَونَتْ ظاهرة لم ير التاريخ لها مثيلاً وهي ما أُطْلِقَ عليها بالبحيرات أو البرك النفطية التي وصل عددها نحو 246 بحيرة عمقها تراوح بين 5 إلى 30 سنتيمتراً، وغطت مساحة من البر قُدرت بنحو 114 كيلومتراً مربعاً. وفي الوقت نفسه فإن هذه البحيرات كَونتْ ما يُطلق عليه علمياً بالمواقع الملوثة(contaminated land)، أو الأراضي المسمومة، فلوثت التربة وسممت المياه الجوفية وقضت على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية.

ومشكلة المواقع الملوثة تحولت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين إلى ظاهرة عالمية خطيرة موجودة في كل دول العالم، ولكن لأسباب متعددة، وبدرجات ومستويات متفاوتة، وأنواع من التلوث تختلف من دولة إلى أخرى، فبعضها مواقع لمصانع أو محطات قديمة لتوليد الكهرباء، وبعضها مواقع لدفن المخلفات، وأخرى محطات أُغلقت للتجارب والأبحاث، أو مواقع لتسربات نفطية وكيميائية.

فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بحصر هذه المواقع التي بلغت أكثر من 1300 وجعلتها في قائمة واحدة أُطلق عليها بمواقع السوبر فيند(Superfund)، وخصصت مليارات الدولارات لمعالجتها والتخلص من سمومها وإعادتها تدريجياً إلى وضعها الطبيعي خلال المائة سنة القادمة. ومن أشهر هذه المواقع المسمومة والملوثة بالمواد المشعة والتي تعتبر قنابل الدمار الشامل المـَوْقُوتة هي منطقة هانفورد(Hanford Nuclear Reservation) في ولاية واشنطن التي كانت من المواقع السرية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى لإنتاج أول قنبلة ذرية، والآن تُعد من المواقع الأخطر والأشد تلوثاً على المستوى الدولي، حيث تـُخزن في بطنها في أعماق الأرض نحو 53 مليون جالون من المخلفات شديدة الإشعاع والتي بدأت في التسرب إلى سطح الأرض. وهناك في المقابل المواقع الملوثة بمخلفات الحروب كالحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فيتنام، مثل الذخائر والمعدات المستهلة أو القديمة أو القنابل الكيميائية والحيوية والنووية، فهذه المخلفات مازالت موجودة حتى الآن في بعض المواقع لا يعرف أحد عن مصيرها، وستظل جاثمة فوق صدور الأمريكيين إلى أجلٍ غير مسمى.

وفي الصين فقد أكدت التقارير الحكومية أن قرابة أن 19.4% من الأراضي الزراعية مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية وهي العناصر الثقيلة مثل الكادميوم والنيكل والزرنيخ والزئبق والملوثات العضوية، ولذلك فهي تدخل ضمن المواقع المسمومة.

وفي الكثير من الدول الأفريقية مواقع ملوثة بالمخلفات الصلبة، وبخاصة المخلفات الإلكترونية الخطرة التي تحتوي على الزئبق والرصاص والكادميوم وغيرها من العناصر السامة التي تُسمم التربة والإنسان والحياة الفطرية.

واليابان اليوم تعاني من أزمة خانقة تهدد حياة الناس، وتتمثل في المواقع التي تسممت بالإشعاع الذي نجم عن انفجار مفاعلات فوكوشيما، إضافة إلى حيرة اليابان في كيفية التعامل مع مئات الآلاف من الأطنان من التربة والحمأة المشعة المخزنة حالياً في بعض المواقع.

ولذلك نجد أن المواقع الملوثة المسمومة أصبحت مشكلة واقعية تُسبب قلقاً شديداً، وهَمَّاً مستداماً للمعنيين من علماء وسياسيين وصُناع القرار، ففي بعض الحالات الحلول الناجعة والسليمة غير موجودة، فلم يتوصل العلم الحديث حتى الآن إلى علاجها وسبل التخلص الآمن منها، ولذلك عليها الانتظار إلى أي يحين موعدها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق