الجمعة، 6 يونيو 2014

أسرار الدولة!



تقريرٌ بيئيٌ خطير جداً لم يُنشر في حِينه، وأُودعَ في غَياهِب الأدراج السرية، وأُغلق بالشمع الأحمر، واعتبرته الوزارة المعنية بأنه من "أسرار الدولة"، وبناءً عليه يجب أن لا يطلع عليه أحد ويبقي في طي الكتمان والنسيان. وهذا مع الأسف، هو حال الكثير من التقارير التي تصدرها دولنا، فلا يراها أحد ولا تستفيد منها الأجيال الحالية ولا اللاحقة، بل وإن البعض من الوزراء يستغل ورقة ومصطلح "أسرار الدولة" لإخفاء عيوبهم، والتستر على عوراتهم، وعدم كشف ضعف إنتاجهم وقلة حيلتهم في العطاء والإنجاز والإبداع.

فهذا التقرير الخطير قامت بإعداده وزارة حماية البيئة بالتعاون مع وزارة الأرض والموارد في الصين، حيث احتوى على معلومات هامة جداً تبين حجم التلوث الذي تغلغل بعمق في البيئة الصينية، وبخاصة الفساد البيئي الذي أصاب تربة الصين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، حتى أنها في معظمها أصبحت سامة وملوثة بالعناصر الثقيلة وغير صالحة للزراعة وإنتاج الغذاء للمواطن الصيني. فقد أكد التقرير الذي يُغطي فترة زمنية من أبريل 2005 إلى ديسمبر 2013، أن 19.4% من الأراضي الزراعية، أي نحو 3.33 مليون هكتار، مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية وهي العناصر الثقيلة مثل الكادميوم والنيكل والزرنيخ والزئبق والملوثات العضوية، وانعكس هذا التلوث على نوعية المحاصيل وجودتها وصلاحيتها لاستهلاك الإنسان، حيث أكد التقرير أن زهاء 12 مليون طنٍ من الحبوب والرز التي تم إنتاجها كانت مسمومة بهذه الملوثات، مما يعني أن المواطن الصيني كان يأكل طوال السنوات الماضية حبوباً ورزاً مسموماً، إضافة إلى ملايين البشر في الدول الأخرى التي كانت تستورد هذه المحاصيل الصينية. وعلاوة على هذا التدهور الشديد للتربة بسبب الأنشطة الصناعية وغير الصناعية الملوثة للبيئة، فقد أكد التقرير على أن نحو 60% من المياه الجوفية مسمومة وغير صالحة للشرب والاستهلاك الآدمي أو الحيواني أو النباتي، إضافة إلى أن 85% من أنهار الصين غير صالحة للشرب.

ولذلك فلا شك بأن هذه المعلومات الموجودة في التقرير خطيرة جداً ومخيفة في الوقت نفسه، وقد تكون لها تداعيات سياسية وأمنية واجتماعية تهدد الاستقرار في الصين، فكان لا بد إذن من الحجر عليها وإخفائها من قبل الجهات المعنية، وتصنيفها كالعادة ضمن "أسرار الدولة" أو "سرية للغاية".

ولكن مع التغيرات السياسية والبيئية التي شهدتها الصين في السنوات الماضية نتيجة للتدمير الشديد الذي نزل على كل الأوساط البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة ودمر صحة المواطنين عامة، فقد أعلن رئيس الوزراء الصيني(Li Keqiang) في مارس 2014 في خطابه التاريخي أمام مجلس الشعب الوطني الصيني "الحرب على التلوث"، واتخذ إجراءات ميدانية شاملة لتصحيح الوضع البيئي المأساوي الذي أَلـَمَّ بالصين كلها، وكان من ضمن هذه الإجراءات أنه أصدر أمراً تنفيذياً في فبراير 2014 بحظر ومنع استخدام ورقة "أسرار الدولة" كمبرر لإخفاء المعلومات والتقارير البيئية والصحية التي لها علاقة مباشر بالأمن البيئي والصحي للمواطنين، مما نجم عنه مباشرة كشف التقرير المـُصنَّف سابقاً تحت "أسرار الدولة" حول تدهور التربة في الصين في 17 أبريل من العام الجاري، ونشره في الوسائل الإعلامية الصينية.

وهذه التجربة الصينية لم تأتْ من فراغ وبين عشيةٍ أو ضحاها، وسياسة الشفافية في الحصول على المعلومات التي تبنتها الصين جاءت نتيجة للفساد العميق الذي تغلغل في البيئة الصينية والتدهور الشديد الذي أصاب أجسام الناس، حتى أن هناك نحو 400 قرية سرطانية، أي ترتفع فيها مستويات الإصابة بالسرطان بين سكان هذه القرى، فسياسة رفع القيود والسرية على نشر التقارير الحكومية التي تخص صحة وبيئة المواطنين جاءت كذلك نتيجة للاحتجاجات الشعبية والمظاهرات العنيفة والصدامات المميتة التي شهدتها الصين في الخمس سنوات الماضية منعاً لإنشاء مصانع ملوثةودفاعاً عن حرمات البيئة وحقوقها، وحفاظاً على صحة الناس من الملوثات التي دخلت في أعماق جذور البر والبحر والجو.

ولذلك حري بنا أن لا نُعيد هذه التجربة الصينية في بلادنا فهي مُكلفة جداً أمنياً وسياسياً واقتصادياً وبيئياً وصحياً، والمـُؤمن يتعظ بالتاريخ قبل أن يتعظ التاريخ به.          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق