الجمعة، 8 أغسطس 2014

رشوة



المخلفات الصلبة وشبه الصلبة بأنواعها المختلفة السامة والخطرة والمشعة تتكدس يوماً بعد يوم ومنذ عقود من الزمن في الكثير من دول العالم، والجهات المعنية بمعالجة هذه المخلفات والتخلص منها بطريقة سليمة ومستدامة بيئياً وصحياً واجتماعياً أصبحت تعاني من هذا الكابوس المخيف والحلم المزعج الذي يَنْزل عليها في كل ليلة ويعكر صفاء وحلاوة نومها.

فهناك الآن في معظم مدن العالم، وبخاصة المدن الصناعية العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، ملايين الأطنان من هذه المخلفات، وبالتحديد المشعة منها، والتي تخزن بصورة مؤقتة منذ الحرب العالمية الأولى ومنذ قيام الثورة الصناعية في مواقع مختلفة على سطح الأرض، أو في أعماق بطن الأرض في قنوات سرية لا يعلم عنها إلا القليل من الناس.

ولذلك فإن هذه المواقع الخطرة التي يوجد الكثير منها بالقرب من المجتمعات البشرية، تحولت إلى هاجسٍ يومي للناس، وأثارت لديهم الكثير من القلق والهم الشديدين، بل ووَلَّدَتْ لديهم غماً دائماً بسبب التأثيرات السلبية التي يتعرضون لها لسكنهم بالقرب من هذه القنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أي وقتٍ دون سابق إنذار.

فهذه المواقع الآن خَلقت مشكلة كبيرة ومزمنة للمعنيين بإدارتها من حيث إيجاد المواقع المناسبة لتخزين ومعالجة هذه المخلفات التي تزيد كمياتها كل يوم، فهناك رفضٌ جماهيري عارم، وعنيف في بعض الأحيان لوجود هذه المواقع بالقرب منها، مما اضطر الجهات الحكومية إلى استخدام وسائل متنوعة وإبداعية، وتقديم عروضٍ مغرية تُرغب الناس وتشجعهم على قبول هذا الضيف الجديد للسكن بجوارهم، ومن بينها تقديم "رشوة" مالية وعروض نقدية مباشرة للحصول على موافقة مبدئية من الناس لدراسة خصال وطبائع هذا الضيف القادم لهم.

فعلى سبيل المثال، تُحاول بريطانيا جاهدة منذ عقود، وبدون جدوى، البحث عن موقعٍ مناسب من الناحية البيئية والصحية،ومرضي في الوقت نفسه للمواطن البريطاني للتخلص من مخلفاتها المشعة المتكدسة حالياً في مواقع متفرقة وغير آمنة، ولم تنجح حتى الآن في الحصول على مكانٍ جيد من الناحية البيئية، والصحية، والاجتماعية، ولذلك اضطرت إلى استخدام مدخلٍ غير تقليدي لإقناع الناس وجذب انتباههم واهتمامهم لهذه القضية، حيث أعلنت الحكومة والشركات المختصة عن تقديم مبلغٍ مالي ضخمٍ جداً قدره مليون جنيه إسترليني سنوياً، ولمدة خمس سنوات إلى أية مدينة أو بلدية فقط من أجل الموافقة المبدئية على "مناقشة" موضوع دفن وتخزين المخلفات تحت أرض المدينة، ثم إذا تمت الموافقة الأولية من قبل قيادة المدينة وبلديتها، فإن الحكومة ستدفع 2.5 مليون جنيه سنوياً للقيام بعمليات التقييم النهائية وإجراء التجارب الضرورية على التربة السطحية والقاعية، علماً بأن هذا المشروع سيكلف الحكومة البريطانية ودافعي الضرائب قرابة 12 بليون جنيه، ويستغرق إنجازه عقوداً من الزمن لا يمكن تحديدها بدقة في الوقت الراهن.

فهذا المثال البسيط الذي قَدمتُه لكم من بين أمثلة كثيرة، يؤكد لنا جميعاً المأزق الكبير، والهم العظيم والمستمر منذ أكثر من قرن الذي تعاني منه الدول الصناعية الكبرى التي توغلت بعمق وبسرعة في التصنيع والتسليح دون التفكير في المخلفات الخطرة والمشعة التي تنتج عنها وتتراكم عندها سنة بعد سنة، وعليها الآن أن تتحمل نتائج تنميتها المتعجلة غير العقلانية وغير الرشيدة، وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس ولا نكرر أخطاءهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق