الجمعة، 17 أبريل 2015

أمريكا تَتَنَكر لجنودها



كَتبتْ الصحف الأمريكية خبراً في 26 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "وزارة الدفاع الأمريكية تعتذر لجنودها لتعرضهم لأسلحة وذخائر وقنابل كيميائية دون علمهم أثناء خدمتهم في العراق"، حيث جاءت التفاصيل بأن وكيل وزارة الجيش الأمريكي براد كارسون(Brad Carson)قد اعتذر رسمياً عن سوء تعامل الجيش مع المحاربين القدماء عندما قاموا بعمليات سرية في العراق وتعرضوا من خلالها ودون علمهم للملوثات الكيميائية السامة والحارقة الناجمة عن إتلاف القنابل والذخائر الكيميائية القديمة والمهجورة والمخزنة من فترة حرب الخليج الأولى في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، كما أعلن وكيل الجيش الأمريكي قائلاً بأنه سيوفر لهؤلاء المتضررين العلاج المناسب لمثل هذه الحالات والإصابات، وسيعترف الجيش رسمياً بالجنود الآخرين الذين تنكر لهم وتجاهل شكاويهم ومعاناتهم منذ عقودٍ طويلة من الزمن ورفض الاعتراف بتعرضهم للملوثات الكيميائية الخطرة.

ولكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: كيف جاء هذا الاعتذار الرسمي من البنتاجون؟ وبعد كم سنة من وقوع الفضيحة أَعلنتْ وزارة الدفاع عن أسفها لجنودها؟

في الحقيقة، وبعد بحثٍ معمقٍ وطويل في أرشيف وسائل الإعلام الأمريكية، تأكدتُ بأن اعتذار الحكومة الأمريكية ممثلاً في البنتاجون لجنودها الذين يُضحون من أجلها ويفدونها بأرواحهم وأجسادهم لم يأت من فراغ، ولم يكن طواعية منها وإيماناً بواجباتها تجاه جنودها، وإنما جاء هذا الاعتذار رغماً عن أنفها، بل واضطروا إليها اضطراراً بعد أن فاحت رائحتها النتنة إلى الجمهور الأمريكي، وبعد أن فضحتها وسائل الأعلام الأمريكية نفسها، وكشفت أسرارها المـُخِيفة والمـَخْفية والتي تم التكتم عليها أكثر من عشر سنوات طوال دون الإحساس بمعاناة جنود الوطن وحماة البلد!

فقد نُشر التحقيق الأول في مجلة التايمس الأمريكية في 14 أكتوبر 2014 تحت عنوان: "كَشْفْ أسرار البنتاجون المـَكْتُومَة منذ زمنٍ طويل"، والثاني في 29 من الشهر نفسه، حيث أكد التقريران على تعرض الكثير من الجنود دون عِلْمهم للملوثات والسموم الناجمة عن تعطيل وإتلاف آلاف القنابل الكيميائية بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها، سواء أكانت غاز الكلورين السام، أو غاز الخردل الحارق، أو غازات الأعصاب المدمرة للخلايا العصبية، ثم في الثالث من ديسمبر عام2014 جاء تقرير شامل ومطول نشرته صحيفة النيويورك تايمس، تحت عنوان:"الأسلحة الكيماوية في العراق: إفشاء أسرار البنتاجون المـَخْفِية"، وهنا أكد التحقيق من خلال المقابلات الشخصية لآلاف الجنود المصابين والمتضررين أثناء خدمتهم في العراق في الفترة من 2004 إلى 2011  أنهم بالفعل لم يعرفوا شيئاً عن نوعية العمليات التي قاموا بها وطبيعة المهمات التي وُكلت إليهم، فقد تعرضوا لهذه السموم الحارقة عند تخلصهم لآلاف الذخائر والصواريخ والقنابل الكيميائية والعمل على إبطال مفعولها، فلم تعترف الحكومة الأمريكية بنوع هذه الإصابات، ولم توفر لهم العلاج الطبي المناسب لمثل هذا النوع الخطير من الإصابات، بل وأكدت هذه التحقيقات أن وزارة الدفاع تنكرت لهؤلاء الجنود، وتخلت عنهم، وأخفت كلياً تعرضهم، وفي الوقت نفسه وَجَّهُوا هؤلاء الجنود للامتناع عن الحديث عن هذه العمليات "السرية" التي قاموا بها.

وقد صرح أحد هؤلاء الجنود المصابين للحروق بسبب تعرضه لغاز الخردل لصحيفة النيويورك تايمس قائلاً: "كُنتُ أشعر بأنني كفئران التجارب وليس جندياً مصاباً"، ثم خَتَمتْ الصحيفة التحقيق بالعبارة التالية: "حَقِيقةْ تَنَكُر الحكومة الأمريكية لعلاج جنودها بعد تعرضهم للملوثات المنبعثة عن القنابل الكيميائية يؤكد بأن قيمة حياة الجنود عند حكومتنا تساوي صفراً".

وإنني شخصياً لم أستغرب من موقف الحكومة الأمريكية تجاه جنودها، فهناك حوادث أخرى وقعت في السنوات الماضية وأَكدتْ لي أن أمريكا تستغل جنودها أثناء الحروب ثم ترميهم بعد انتهاء صلاحيتهم وخدمتهم. فعلى سبيل المثال، لم تعترف الحكومة الأمريكية بالمرض العضال الذي أصاب عشرات الآلاف من الجنود بعد الانتهاء من خدمتهم في حرب تحرير الكويت في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، كذلك فإن الجيش الأمريكي نفسه في فضيحة تاريخية مدوية كان يرمي أجساد الموتى من الجنود، أو بقايا أعضائهم من حرب أفغانستان والعراق في "الزبالة" وفي مواقع دفن القمامة!

فإذا كان هذا هو حال الجندي الأمريكي، فكيف يا تُرى سيكون وضع الشعوب والحكومات التي تتعامل معها أمريكا، أو تقع تحت هيمنتها وسيطرتها؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق