الثلاثاء، 28 أبريل 2015

من المباني المستقبلية إلى مُدن المستقبل


نشرتُ مؤخراً في أخبار الخليج مقالاً عنوانه :"مباني المستقبل" أو المباني الخضراء وتناولتُ فيه مفهوماً جديداً في بناء المباني والعمارات والمساكن بحيث يأخذ هموم البيئة والحفاظ على ثرواتها ومواردها في الاعتبار كجزء رئيس عند مرحلة التصميم والتنفيذ والصيانة لهذه المباني، واليوم أجد نفسي مضطراً إلى النظر بشكلٍ عام وعلى مستوى أكبر في هذه المفهوم الحديث وبالتحديد عند تصميم وبناء المدن، أو عند توسعة وصيانة مدن قديمة.

 

ولكن في حالة تصميم وبناء المدن البيئية والخضراء فإننا نقف أمام قضيةٍ كبيرة وعلى مستوى واسع، ونواجه أمراً معقداً ومتشابكاً وفيه مَطَبات وعوائق كثيرة منها سياسية، ومنها اقتصادية، ومنها اجتماعية، ولذلك سنكون بحاجةٍ إلى إحداث انقلابٍ عام أو "ثورة بيئية"، و"ثورة خضراء" تكون على مستوى تحديات هذه القضية، بحيث تُحدث تغييرات جذرية معمقة في البنية التحتية وفي كافة التسهيلات والمرافق المرتبطة بها. فنحن بحاجةٍ إلى ثورة في تغيير المعلومات لدى الأفراد والمسؤولين وكافة شرائح المجتمع، وثورة في تغيير المفاهيم، وثورة في تغيير الاتجاهات، وثورة في تغيير السلوكيات، أي ثورة بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية وإعلامية وتشريعية عامة تغطي كافة مناحي الحياة وتُعطي البيئة الأولوية عند تصميم أو تنفيذ أي مشروع في المدينة، صغيراً كان أم كبيراً، مشروعاً سكنياً كان أم تجارياً، مشروعاً صناعياً كان أم غير ذلك، وبعبارة أخرى أي مشروعٍ أو عمل يقام في المدينة. 

 

فهذا الانقلاب البيئي المطلوب عند بناء أو تنمية المدن يعتمد على مفهومٍ بسيط هو البناء بدون التدمير، والتعمير بدون الافساد، والتنمية بدون الهدم، أي على سبيل المثال بناء وتشييد المصانع دون السماح لها بإطلاق الملوثات الضارة إلى الهواء الجوي التي تقتل البشر والشجر، ودون السماح لها بصرف المياه الملوثة والسامة إلى المسطحات المائية أو الجوفية التي تهلك الحياة الفطرية المائية وتضر بالإنسان والحيوان، وفي الوقت نفسه إجبار هذه المنشآت الصناعية على منع إنتاج كافة أنواع المخلفات الصلبة والسائلة والغازية، أو معالجتها وإدارتها بشكلٍ بيئيٍ وصحيٍ سليمين، كذلك التنوع في توفير وسائل للمواصلات العامة والخاصة بحيث تخفض من تلويث الهواء الجوي نوعياً وكمياً وتقلل من الازدحام والاكتظاظ المروري في الشوارع وتقلل من الهدر في موارد الطاقة غير المتجددة، ومن جانب آخر نُعَمَّر المباني والمساكن والعمارات الشاهقة دون أن نقضي على المساحات الخضراء الطبيعية أو الحياة الفطرية النباتية أو الحيوانية، ونأخذ في الحسبان جميع الوسائل والتقنيات المتاحة والمتوافرة لخفض وترشيد استهلاك الموارد والثروات الطبيعية غير المتجددة والناضبة، سواء أكانت الكهرباء، أو الماء، أو مواد البناء، ونقلل من إنتاجنا للمخلفات الصلبة والسائلة.

 

وهذا الانقلاب أو الثورة البيئية العامة المطلوبة عند بناء المدن تعني أيضاً التنوع في مصادر إنتاج الكهرباء والماء وعدم الاعتماد كلياً على المصادر التقليدية والناضبة وغير المتجددة، مثل مشتقات النفط أو الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء وتشغيل محركات السيارات، والتفكير في المصادر النظيفة والمتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما، كذلك بالنسبة لمصادر المياه والاعتماد على تقنيات التدوير وإعادة الاستعمال، سواء بالنسبة للمياه الصناعية أو مياه المجاري.

 

فالانقلاب البيئي الذي أدعو إليه يفرضه الواقع المؤلم الذي يعاني منه معظم المدن الحضرية من فسادٍ كبير لنوعية الهواء، وتدميرٍ عميق لمياه البحر، وهدرٍ كبير للموارد والثروات الطبيعية، وانتشارٍ واسعٍ ومشهود للأمراض الناجمة عن هذا التدهور البيئي في المدن، فالتجارب السابقة في بناء المدن أكدت فشلها وعدم استدامتها ولم تحقق أهدافها، ولذلك كان لا بد لي من طرح هذه الرؤية الشاملة الجديدة لنحقق لأنفسنا السعادة، ولبيئتنا الصحة والسلامة، ولمواردنا الاستدامة في العطاء والبقاء.     

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق