الجمعة، 16 أكتوبر 2015

تنفيذ مواصفة بيئية يُكلف 3.4 تريليون دولار!



المواصفات والمعايير البيئية، سواء المتعلقة بجودة الهواء أو الماء أو نوعية الانبعاث من السيارات والمصانع تخضع لعملية ديناميكية متغيرة مع المكان والزمان، وتتم مراجعتها بشكلٍ دائمٍ ومستمر، حسب توافر أحدث وآخر المعلومات العلمية والأبحاث الميدانية المتعلقة بتأثير الملوثات المـَعْنية على صحة الإنسان وأمن وسلامة البيئة والحياة الفطرية.

ولكن في المقابل وهو الأهم بالنسبة للدول هو خضوع هذه المعايير للجانب الاقتصادي من حيث حساب كُلفة تنفيذ المعيار أو المواصفة البيئية على الدولة من جهة، وعلى الشركات والمصانع من جهةٍ أخرى، وتحديد التبعات الاقتصادية التي تتكبدها هذه الجهات، وهذا البعد في تقديري يَلقى اهتماماً أكثر عند الحكومات ويُعْطَى الأولوية عند رجال السياسة والقانون في مرحلة اتخاذ القرار وتبني المواصفة وإقرارها، وهذا يَعني أن المـُشرعين والحكومات يضعون الأضرار والخسائر الاقتصادية التي قد تنجم عن تبني المواصفة أو القانون البيئي فوق الخسائر الصحية والبيئية التي تقع عند عدم تبني وتطبيق هذه المواصفة من ناحية السماح للملوثات من الانبعاث بنسبٍ مرتفعة تؤدي مع الزمن إلى تدمير صحة الإنسان وتصيبه بالأمراض والأسقام المزمنة، وتُفسد صحة وأمن مكونات البيئة من هواءٍ وماءٍ وتربةٍ وكائنات فطرية.

واليوم نقف أمام مواصفة بيئية اقترحها الرئيس أوباما وأعلن عنها في الأول من أكتوبر من العام الجاري وتؤكد دور العامل الاقتصادي عند اقتراح أية مواصفة أو معيار بيئي، فقد أعلن أوباما أنه يقترح تعديلْ المواصفة الخاصة بتركيز غاز الأوزون في الهواء الجوي من  75 إلى 70 جزءاً من الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي.

ومباشرة، وفور الانتهاء من خطابه بدأت آلة الحرب الإعلامية تشتعل لمواجهة هذا المعيار الجديد وهزيمته قبل أن يَرَى النُور، حيث جاء الرد السياسي والتشريعي سريعاً وقاسياً من الكونجرس، ممثلاً فيالسيناتور الجمهوري جيمس إينهوف(James Inhofe) رئيس لجنة البيئة والأشغال العامة، حيث أكد على معارضته الشديدة لهذا التعديل، وبعد سويعات من هذا التصريح السياسي، تحركت جماعات الضغط من شركات الفحم والنفط والغاز، والشركات المصنعة للسيارات، ومحطات توليد الكهرباء، وهاجمت المواصفة بدفع الملايين لحملات إعلانية مسعورة تركز على الجرح الذي يؤلم الجميع وهو الخسائر الاقتصادية التي تنجم عن تنفيذ هذه المواصفة، مؤكدين بأنها تُسبب نزيفاً داخلياً لقلب الاقتصاد الأمريكي لا يمكن توقيفه ومُقَدرين هذه الخسائر المالية بنحو 3.4 تريليون دولار، إضافة إلى فُقدان زهاء 2.9 مليون وظيفة خلال الأعوام القادمة، فمثل هذا المعيار عند تطبيقه يعني وضع أجهزة تحكم مكلفة وغالية جداً في ملايين السيارات والحافلات، وعلى آلاف المحطات الخاصة بتوليد الكهرباء، إضافة إلى المصانع التي تعمل بوقود الفحم أو الغاز الطبيعي أو الديزل، مما يرفع بدرجةٍ كبيرة من كلفة التشغيل والصيانة ويزيد من سعر إنتاج الكهرباء وسعر بيعه على المستهلكين، إضافة إلى الازدياد الملموس في أسعار السيارات وكافة المنتجات التي يحتاج إليها المواطن الأمريكي بشكلٍ يومي.

فهذا الهجوم الممنهج والمنظم على كافة الجبهات جاء بالرغم من أن أوباما لم يأخذ بتوصية ورأي الأطباء وعلماء البيئة والمناخ وآلاف الباحثين في هذا المجال، والذين أوصوا بأن تكون مواصفة غاز الأوزون في الهواء الجوي 60 جزءاً من الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي، وهي النسبة التي تقي صحة الإنسان من هذا الغاز القاتل، وتُجنبه الأمراض التي تنجم عنه من تلفٍ في الجهاز التنفسي، والربو، وأمراض الرئة الأخرى، إضافة إلى تأثيراته الضارة على مكونات البيئة الحية وغير الحية.

فالرئيس أوباما عند اقتراحه لهذه المواصفة ضرب بالبعد الصحي والبيئي عرض الحائط ولم يأخذ بآراء المختصين المعنيين بحماية أمن وسلامة الإنسان وعناصر البيئة من شر الأوزون وأخواته من الملوثات الأخرى، وتبني بدلاً من ذلك المدخل "السياسي والتوافقي" لإرضاء كافة الأحزاب والحصول على موافقة الجهات التي قد تتضرر عند تنفيذ هذه المواصفة، فأَراد بذلك اقتراح مواصفة "معتدلة ووسط" تكسب قلوب الجميع وتحظى بمباركتهم، وهذا ما لم يُوفق فيه أوباما حتى الآن، فالشركات العملاقة لا يَهُمها صحة الإنسان وبيئته بِقَدر ما يهمها صحة وثراء وملء جُيوبهم وجيوب المساهمين معهم.

أما في دولنا فنحن لا نشعر بهذه الحرب الضروس عند اقتراح المعايير والمواصفات البيئية الجديدة، ولا نحس بالأزمة السياسية التي تُشكلها عملية إقرار المواصفات، وذلك لأن مواصفاتنا البيئية تأتينا مُعِلبة وجاهزة للأكل، فنحن نستوردها كما هي عليها دون تغيير أي حرفٍ فيها، ولا ندرس أبعادها على الاقتصاد الوطني ومدى مناسبتها لظروفنا المحلية، كما أننا إذا وضعنا المعايير فستبقي خالدة مخلدة كالكتب المقدسة لا تعديل أو تغيير يجري عليها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق