الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

لماذا لا يَتَعرض كل مُدخن لسرطان الرئة؟



ألقيتُ مؤخراً محاضرة عامة عن التدخين وأكدت فيه أن هناك إجماعاً دولياً بأن للتدخين تداعيات بيئية وصحية واجتماعية واقتصادية خطيرة تنعكس على الفرد، والأسرة، والمجتمع برمته، وشددت في المحاضرة على الأبعاد والأضرار الصحية والبيئية التي تتمثل في وجود نحو 4000 مادة كيميائية سامة وخطرة، منها مواد تصيب الإنسان بالسرطان، ومنها ملوثات مُشعة تُهلك الإنسان ومن حوله من غير المدخنين على حدٍ سواء، وكل هذه الملوثات تُوقع المدخن وغير المدخن في شر الإصابة بأكثر من 12 نوعاً من السرطان القاتل وفي مقدمتها سرطان الرئة، ومئات الأسقام الخطرة الأخرى.

وبعد الانتهاء من المحاضرة وفتح باب الأسئلة والمناقشة، وَقَف أمامي شخص قد بلغ من الكبر عِتياً، واشتعل رأسه شيباً، وانكشفت على وجهه تجاعيد العمر الطويل والخبرة العميقة، وقال لي وعلامات الحيرة والاستفهام تبدو على وجهه النحيل: يا دكتور أنا أُدخن منذ سنواتٍ طويلة ولم أصب بمرض السرطان كما تقول؟

وفي الحقيقة فإن هذا السؤال جاء في وقته، وهو تساؤل وجيه وموضوعي يراود ذهن الكثيرين ويشغل بالهم ويحتاج إلى تفسيرٍ علمي، وتحليلٍ طبي منطقي، وفي الوقت نفسه فإن هذه الظاهرة المتمثلة في عدم إصابة بعض المدخنين بأمراض السرطان، وبالتحديد سرطان الرئة، قد حَيَّرت العلماء منذ زمنٍ طويل وأَلْهـَمتهم القيام بدراسات مستفيضة ومعمقة لسبر غور الأسباب التي تقف وراء هذا اللغز الغامض والسر الخفي.
  
ولذلك اجتمع فريق علمي مرموق يُشكلون تخصصات متعددة ويمثلون العديد من الجامعات في مختلف دول العالم للإجابة عن هذا اللغز الغريب، والتعرف عن كثب على كافة الشبهات والملابسات التي تحوم حوله، وقاموا بدراسة شملت 50 ألف إنسان في بريطانيا من المدخنين وغير المدخنين، ونشروا نتائج هذه الدراسة في دوريةٍ طبية معروفة دولياً هي مجلة لانست للطب التنفسي(Lancet Respiratory Medicine journal) في العدد الصادر في 28 سبتمبر من العام الجاري. 
 وقد جاءت النتائج، وبعباراتٍ بسيطة، أن هناك بعض الجينات "الصالحة والجيدة" الموجودة فطرياً وطبيعياً في أجسام بعض الناس، وهي التي تَقي الإنسان المدخن من شر الوقوع في فَكِ مرض السرطان، فقد أفادت الدراسة إلى أن التغيرات والتحولات التي تحدث في الـ دي إن أيه، أو الجزئيات الوراثية والخلايا ليس للإنسان دخل فيها، ولا دور له في كيفية تحولها، وإنما حسب تفسير العلماء الذين أجروا هذه الدراسة تَحْدث من قبيل "الصدفة والحظ"، فقد تحدث هذه التغيرات لما فيها خير هذا الإنسان، فتكسبه القوة والصحة والسلامة في الجسد، وقد تحدث هذه التحولات لتُصيب الإنسان بالأمراض الخبيثة والمزمنة، والتي يطلق على بعضها بالأمراض الوراثية، ولذلك فإن بعض التغيرات تؤدي إلى تحسين صحة الرئة، وتقوية وظائفها الحيوية، فتَقِيها من تداعيات الملوثات التي تنبعث عن التدخين، حتى ولو كان مدخناً شرهاً، ولذلك يكون هذا الإنسان أقل عرضة من غيره للإصابة بالأمراض التنفسية، وفي حالات أخرى تُضعف هذه التغيرات الجينية من وظائف الرئة، وتُعرض هذا الإنسان للإصابة بالأمراض المزمنة الخطرة، مثل سرطان الرئة وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة والفتاكة.

وهذه الظاهرة التي اكتشفها العلماء في هذه الدراسة، بدأت تتحول إلى حقيقة علمية مع الوقت، ففي كل يوم أقرأُ وأسمع عن بحثٍ علمي يُؤكد هذه الظاهرة، ويثبت أن للقضاء والقدر، أو ما يُسميه العلماء "الحظ والصدفة" دوراً رئيساً وجوهرياً في ازدياد احتمال إصابة الإنسان بالسرطان.

وبالرغم من ذلك، فإن هذه الحقيقة يجب أن لا تُصيب الإنسان باليأس والقُنوط والإهمال لصحته وسلامته، فتدعوه إلى القيام بممارسات وعادات خاطئة ومضرة صحياً وأجمع العلماء على فسادها لصحة الإنسان، بل يجب إتباع نهج المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما قال للإعرابي: "إعْقِلها وتوكل"، أي أن الإسلام يدعونا إلى الأخذ بالأسباب والوسائل التي تقينا شر الأمراض والعلل، وتوخي الحذر والحيطة في كل أمر من أمور دُنْيانا، كما يأمرنا ديننا الحنيف إلى تجنب أية ممارسة أو عادة تؤثر على أمننا الصحي، سواء أكان ذلك تدخين السجائر والشيشة بأنواعها المختلفة والمتعددة، أو شرب الخمر، أو تناول الأغذية المعلبة والمشروبات الغازية المشبعة بالسكر، أو الكسل والخمول وعدم ممارسة الرياضة، فالإسلام يثني ويؤكد على الحكمة التي تقول "الوقاية خير من العلاج".    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق