الخميس، 1 أكتوبر 2015

فضيحة فولكس واجن: خطيئةٌ لا تُغتفر



يقول إبن القيم رحمه الله في قصيدته المشهورة:
إن كُنتَ لا تدري فتِلك مصيبة       وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

وهذا البيت من الشعر ينطبق على الفضيحة النكراء والجريمة السوداء التي ارتكبتها عمداً مع سبق الإصرار والترصد أيدي شركة فولكس واجن الألمانية للسيارات، والتي تم كشفها وفضحها أمام الملأ عن طريق الصدفة في الولايات المتحدة الأمريكية في شهر سبتمبر من العام الجاري، ثم جَرَّتْ وراءها جميع دول العالم.

فمنذ عام 2009 وهي تغش العالمين، وتُضلل الشعوب، وتوهم المسؤولين ووكلاء السيارات في كل دول العالم بأنها تبيعهم سيارات الديزل النظيفة والصديقة للبيئة وصحة الإنسان، والتي تنبعث عنها نسب منخفضة جداً من الملوثات التي تتطابق مع معايير انبعاث الملوثات من عواد السيارات وتتوافق مع أنظمة وقوانين الدول البيئية.

فالطامة الكبرى، والمصيبة العظمى تكمن في أن التحقيقات الأولية أكدت بأن هذه الشركة تعمدت القيام بهذا التزوير والغش، وخططت لتضليل الناس والدول، وكانت منذ زرع بذور الجريمة على علمٍ تام بكافة التفاصيل والدقائق من حيث الزمن ومسرح هذه الجريمة، فهي التي صممت وكتبت برنامجاً للحاسب الآلي يوضع في سيارات الديزل، وهدفه الأول والرئيس هو "التحايل" وتقديم قراءات خاطئة ومشوهة عن تركيز الملوثات التي تنطلق من عادم السيارة، فعندما تقوم الجهات المعنية في دول العالم بفحص وتحليل نسبة الملوثات من هذه السيارات، يقوم هذا البرنامج بتحوير الأرقام الصحيحة الخاصة بمستوى الملوثات، وتقديم أرقامٍ أخرى خاطئة تتوافق مع مواصفات الدول، وبالتالي توصي هذه الجهات المسؤولة بشراء هذه السيارات والموافقة على تسويقها في الدولة، حتى أن عدد السيارات المغشوشة التي تم بيعها في كافة أنحاء المعمورة بلغ قرابة 11 مليون.

ونظراً لعِظم هذه الفضيحة وفداحتها، فقد تدخلت الحكومة الألمانية في هذه القضية وفتحت الباب على مصراعيه في البدء في تحقيقٍ "جنائي" لمعرفة ملابسات الفضيحة وكشف المسؤولين عن ارتكابها، فهذه القضية سيكون لها وقع كبير ليس على شركة فولكس واجن فحسب المتهمة في الغش والكذب والتحايل، أو شركات السيارات الأخرى التي قد قامت بالفضية نفسها، وإنما الاقتصاد الألماني وسمعة ومصداقية ألمانيا وشركاتها سيكون مهدداً وفي خطر محتوم وكبير، حيث أكد على هذا وكيل وزارة المالية الألماني عندما صرح قائلاً: "هذه الفضيحة قد تكون لها تأثيرات كبيرة على الاقتصاد الألماني".

وفي هذا السياق أيضاً فستنهال القضايا على فولكس واجن يوماً بعد يوم، فقد فتحت الولايات المتحدة مئات التحقيقات الجنائية وغير الجنائية على مستوى الحكومة الاتحادية مثل وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة حماية البيئة، وعلى مستوى الولايات والمؤسسات والأفراد، كما قامت الكثير من دول العالم في التحقيق الجنائي في القضية، مثل بريطانيا، كوريا الجنوبية، الهند، البرازيل، أستراليا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، دولة جنوب أفريقيا، النرويج، وإنني على يقين بأن هناك دولاً أخرى ستتبع هذه الدول في إجراء تحقيقاتها المستقلة.

ولم تَمعنا قليلاً في هذه القضية الدولية ذات الأبعاد الأخلاقية، والبيئية، والصحية لوجدنا أن أسبابها تتلخص في أخلاقيات وثقافة الشركات الكبرى التي تتمحور حول الجشع الزائد، والشَرَه المميت، والجري وراء هوى جمع وكسب المال من حلالٍ أو حرام، وتنفيذ أي إجراءٍ أو عمل مهما كان نوعه يؤدي إلى زيادة الأرباح والسيطرة على سوق المبيعات، وهذه الثقافة نفسها قد تنجح لبعض الوقت، وقد تحقق الأرباح الوفيرة لفترة وجيزة من الزمن، ولكن لن تكتب لها الاستدامة ولا ضمان لاستمراريتها وعطائها. فشركة فولكس واجن نجحت بالفعل لسنواتٍ معدودات في تحقيق أرباحٍ خيالية، وتمكنت من الهيمنة الكاملة على سوق سيارات الديزل، ولكن بسبب الكذب والغش والتحايل سقطت فجأةً في شر أعمالها وفساد نواياها، فهوت إلى قاع الفشل والخزي والندامة، وخسرت كل انجازاتها المالية ومكاسبها الاجتماعية والمعنوية، وفقدت سمعتها في سوق السيارات، ودمرت مصداقيتها، فهي الآن تقف بائسة ووحيدة في قفص الاتهام ذليلة ومكسورة الجناح في كل محاكم دول العالم.

ولذلك نصيحتي إلى جميع التجار وأصحاب الأعمال هي توخي الصدق والأمانة والشفافية التامة في الأعمال، والسعي نحو الربح والثروة بأساليب شرعية لا تخالف تعاليم ديننا الحنيف ولا تتنافى مع القيم الأخلاقية الإنسانية، فالتاجر الصدوق الأمين سيحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق